بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطاهرين
جاء هذا الحديث من الإمام الحسين (ع) بعد أن حل من إحرامه، وعزم على التوجه إلى كربلاء، وقبيل خروجه من مكة جمع الناس، وقام فيهم خطيباً، وقال:
"الحمد للّه، و ما شاء اللّه، و لا قوة إلا باللّه، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، و ما أولهني الى اسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف. و خير لي مصرع أنا لاقيه. كأن بأوصالي تتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء يملأن مني اكراشا جوفا و أجربة سغبا لا محيص عن يوم خطّ بالقلم..".
ولابد أن نؤكد أن من أهم الإستراتيجيات الثابتة في تحرك الإمام الحسين (ع) هي الإلتزام بالخطاب الجماهري الملازم لكل خطواته، وذلك لتزريق الوعي لدى الجمهور بأهداف التحرك ووعي أصول الحركة ومنتهاها، ومن الخطابات الهامة، والتي تعتبر صادمة للمجتمع هي هذه الخطبة التي ألقاها في المجتمع المكي، أو في تجمع الحجاج، وهي تعتبر صادمة لما حملت في طياتها من الإفصاح عن المصير المحتوم الذي ينتظر الإمام (ع) في مسيرته الكربلائية.
وهذا يمثل جانباً من أعلى مصاديق الصدق مع الجماهير، فلم يتّبع سياسة الإغراءات بالمكاسب والمناصب وما شابه ذلك، بل أوقفهم أمام الحقيقة الحتمية التي ينبغي أن يعتقد بها كل مؤمن، وهي الموت، ولكنه هنا أفصح عن طريقة ذلك الموت، ووقته، بل وموضعه الجغرافي.
فكلمته (ع) خط الموت، أي أنه مكتوب، على ولد آدم، إشارة إلى نفسه الزكية، ثم شبه ذلك بمخط القلادة التي تستدير على جيد الفتاة أي رقبتها، وهذه العبارة تحتمل عدة معان:
1- منها أن الموت حتمي وهو محيط بالإنسان لا يمكنه الفرار منه.
2- ومنها أن الموت مع حتميته، إلا أن تشبيه الإمام بالقلادة التي تزين رقبة الفتاة، يشير إلى أن الموت هو لقاء الله تعالى، والمؤمن إنما يسعد بلقاء الله، ويتزيّن بالشهادة في سبيله، كما تتزين الفتاة بحليها.
3- ومنها أن اختياره للقلادة التي توضع على رقبة الفتاة، إنما هي إشارة إلى أسلوب القتل الذي سيتبعه الأعداء، عبر الذبح وقطع الرأس.
وهو بذلك الموت ليس خائفاً، لأنه يمثل لقاء الله ولقاء أوليائه، فهو (ع) مشتاق إلى اسلافه وهم أباؤه الذين سبقوه: جده (ص)، وأمه (ع) وأبوه (ع)، ممثلاً ذلك الإشتياق بالشوق الذي خلّده التاريخ والقرآن الكريم، وهو اشتياق النبي يعقوب إلى ابنه يوسف (ع) الذي ابيضّت عيناه حزناً على فراقه.
ثم يؤكد الإمام أن هذا المصير هو مكتوب عند الله تعالى، وقد توالت الأخبار والتأكيدات على حقيقة وقوعه، حيث قال: (وخير لي مصرع أنا لاقيه).
ويستمر الإمام (ع) في بيان المشهد الكربلائي الذي ينتظره، والحدث الأكبر الذي سيشهده العالم، ذلك المشهد الذي ينتظره التاريخ ليغير مساراته إلى الأبد، فيقول: (كأن بأوصالي تتقطعها عسلان الفلوات)، فالعسلان هي الذئاب التي تسرع في عدوها نحو فريستها، كناية عن تعطش القتلة إلى الدماء ومدى إيغالهم في سفكها، وقد استعملت السيدة زينب (ع) ذات التمثيل في خطابها في مجلس يزيد حيث قالت: (فهذه الأيدي تنطف من دمائنا و هذه الأفواه تتحلب من لحومنا و تلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات).
ثم يشير الإمام إلى الموضع الجغرافي للحادثة، أن ذلك يحدث (بين النواويس و كربلاء)، والنواويس هو موضع قريب من كربلاء، ثم يصف فعلتهم الشنيعة بأنهم (يملأن مني اكراشا جوفا و أجربة سغبا)، فهم كالذئات التي تفترس من أجل أن تملأ أكراشها الجوفاء الخالية التي تتضور جوعاً، ويمثل تلك البطون بالأجربة الجائعة.
وهذه إشارة إلى الطريقة البشعة التي سوف يُقتل بها سيد الشهداء (ع)، وهي الجرح والتقطيع للأعضاء.
أما لماذا اختار الإمام هذه الصراحة في هذا الخطاب؟ فيمكن إيعازه إلى أنه خطاب في مجتمع متعدد قد جمعته عبادة الحج التي يأتيها كل الأطياف من كل فجّ عميق، وهم على اختلاف ثقافاتهم وصفاتهم النفسية، لم يكن الإمام بحاجة إلى كم عددي بقدر ما كان يحتاج إلى الصفوة النوعية المؤهلة لخوض المعترك الكربلائي العظيم، فالصراحة بهذه الدرجة كانت نقطة حكيمة كي لا يتكبّد الإمام في مسيرته عناء من لن تكن فيهم فائدة، ومع التحاق جمع منهم برغم سماعهم لهذا الخطاب، إلا أن الإمام لم يكتف بذلك، بل استمر في إلقاء الخطب وتنقية الركب من أصحاب الشكوك والضعف، وحتى ليلة العاشر قد انسحب من انسحب منهم، وثبت من ثبت.
السيد محمود الموسوي
مقالات ذات صلة:
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08
- من أقوال الإمام الحسن العسكري (ع) - 2016/01/19
- حول حقيقة وجود وفضل المسجد الأقصى؟ - 2016/01/03
- محاضرة مرئية بعنوان المشروع النبوي.. بين بصائر الوحي وحبائل الشيطان - 2016/01/03
- في رحاب كتاب: القدم التي كانت هناك - 2016/01/03
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
- ما حقيقة رأي الشيخ الصدوق في الشهادة الثالثة وسهو النبي؟ - 2024/05/30
- إشكال في خمس الأجير والموظف - 2024/05/28
- ما تقولون في الخواجة ربيع، والخواجة مراد، وأبي الصلت الهروي؟ - 2024/05/28
- هل يُكره الإقامة في كربلاء أكثر من ثلاثة أيام؟ - 2023/08/23
- هل أن دعاء التوسل بالسيدة فاطمة والسر المستودع فيها، وارد عن أهل البيت؟ - 2022/09/13
مقالات متفرقة:
- معنى (رب بما برأتني فعدلت فطرتي) في دعاء عرفة - 2014/07/30
- هل كان زهير ابن القين عثمانياً؟ - 2022/08/11
- هل خوارق أهل البيت (ع) معجزات؟ - 2020/05/11
- ما صحّت ما يقال أن الحسين صار كهيئة المحتضر عند وداع ولده علي الأكبر، وغارت عيناه في أم رأسه وأغمي عليه؟ - 2022/08/08
- رد: حول الحب بين متزوجين، ومقام الزهراء (ع) - 2015/05/27
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 49029 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35949 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33874 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 32123 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28588 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20507 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 20036 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19918 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15918 مرُة
- من أقوال الإمام الحسن العسكري (ع) - 2016/01/19 - قرأ 15676 مرُة