والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين سيدنا محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين،
لقد وردت قصّة الأسد الذي أخبرته فضّة عن نوايا الأعداء بوطء خيول الأعداء ظهر الإمام الحسين (عليه السلام) في مصدر هو من أوثق مصادرنا الشيعية في الحديث، وهو كتاب الكافي للشيخ الكليني (رحمة الله عليه)، والقصة تفيد بأن الأسد توجّه ناحية الجسد الطاهر يحرسه، فانصرفوا عنه.
ولقد ذهب العلامة المجلسي في مرآة العقول إلى نفي حادثة رضّ الجسد الطاهر بالخيول، واعتبرها من دعايات الأعداء، قائلاً:
(المعتمد ما رواه الكليني (ره) ويمكن أن يكون ما رواه السيد (أي ابن طاووس) ادعاءً من الملاعين ذلك لإخفاء هذه المعجزة، وكأنه لذلك قلل ولد الزنا جائزتهم لعلمه). ج5، ص371
وما رواه الكليني هو كالتالي:
الكافي: الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ وَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيِ (الأزدي) قَالَ: لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) أَرَادَ الْقَوْمُ أَنْ يُوطِئُوهُ الْخَيْلَ، فَقَالَتْ فِضَّةُ لِزَيْنَبَ: يَا سَيِّدَتِي، إِنَّ سَفِينَةَ كُسِرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَخَرَجَ إِلَى جَزِيرَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَسَدٍ فَقَالَ يَا أَبَا الْحَارِثِ أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَهَمْهَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى وَقَفَهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَ الْأَسَدُ رَابِضٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَدَعِينِي أَمْضِي إِلَيْهِ وَأُعْلِمُهُ مَا هُمْ صَانِعُونَ غَداً. قَالَ: فَمَضَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْحَارِثِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا غَداً بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)؟ يُرِيدُونَ أَنْ يُوطِئُوا الْخَيْلَ ظَهْرَهُ. قَالَ: فَمَشَى حَتَّى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى جَسَدِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَأَقْبَلَتِ الْخَيْلُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: فِتْنَةٌ لَا تُثِيرُوهَا، انْصَرِفُوا، فَانْصَرَفُوا. ج1، ص465
وقد ذهب بعضٌ إلى رفض قصّة فضة والأسد في كربلاء بناء على ثبوت حادثة الرضّ في المقاتل المعتبرة، إلا أن رفضها لعدم كونها غير صادرة عن معصوم لهو أمر غير صحيح، لأن أكثر المقاتل وأحداث التاريخ لم تُرو عن معصومين، ولا شكّ أن المروي عن المعصوم مقدّم بل هو المحكّم في مقام الاختلاف، إلا أنه لا يسوغ للباحث أن يرفض رواية تاريخية لعدم روايتها عن معصوم.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الاهتمام بحادثة فضة والأسد لابد أن يكون أكثر من غيرها من الأخبار، لورودها في كتاب الكافي، الكتاب الذي اعتنى به مؤلفه الشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني، وتعهّد أن يروي فيه ما ينفع المستفيد من الآثار الصحيحة، ولو على اعتبار صحتها وفقاً لمباني الشيخ الكليني، فالعناية الكبيرة من الكليني تجعلنا نرفع درجة الاعتبار إلى أعلى مستوياتها، كما أن للمقاتل المتقدّمة أهمية من ناحية قربها من تاريخ الحدث، وكتاب الكليني يتقدّم على أغلب المقاتل لأن تأليفه كان في عصر السفراء الأربعة.
وفي الجانب الآخر إن حادثة رضّ الجسد الشريف بحوافر الخيول من الأخبار المشهورة في أكثر المصادر المعتمدة، فقد أوردها ابن طاووس في اللهوف، وأوردها الخوارزمي في مقتله، وأوردها الطبري في تاريخه، والمفيد في إرشاده، وغيرهم، بل لقد ورد ذكر هذه الجريمة الأليمة في نصّ زيارة الناحية بما رواه المشهدي في مزاره الكبير بنصّه:
"حَتَّى نَكَسُوكَ عَنْ جَوَادِكَ، فَهَوَيْتَ إِلَى الْأَرْضِ جَرِيحاً، تَطَؤُكَ الْخُيُولُ بِحَوَافِرِهَا، وَتَعْلُوكَ الطُّغَاةُ بِبَوَاتِرِهَا، قَدْ رَشَحَ لِلْمَوْتِ جَبِينُكَ، وَاخْتَلَفَتْ بِالانْقِبَاضِ وَالِانْبِسَاطِ شِمَالُكَ وَيَمِينُكَ، تُدِيرُ طَرْفاً خَفِيّاً إِلَى رَحْلِكَ وَبَيْتِكَ، وَقَدْ شُغِلْتَ بِنَفْسِكَ عَنْ وُلْدِكَ وَأَهْلِكَ، وَأَسْرَعَ فَرَسُكَ شَارِداً، وَإِلَى خِيَامِكَ قَاصِداً، مُحَمْحِماً بَاكِياً". ص504
فهل نحن بالفعل مخيّرون بين الأخذ بقصّة فضة والأسد فننفي حادثة الرضّ، وبين الأخذ بما ترويه المقاتل ونصّ الزيارة في حادثة الرضّ فنرفض قصة الأسد؟
لقد فهم بعض الأعلام ذلك، ولعل أغلب من ناقش هذا الأمر، خيّر نفسه بين أحد القولين.
ولكننا نقول أن الرّواية المروية في الكافي عن قصّة الأسد لا تُنافي روايات رضّ الصدر الشريف، ويمكن قبول روايات رضّ الصدر مع قبول رواية الكليني، إذ لا تنافي بين الأمرين، لأن الروايات قد صرّحت بأن الأعداء قد داسوا الجسد الطاهر بحوافر الخيل عند مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) مباشرة، ورواية الكليني لم تنف ذلك، ولكنها نفت رضّ الظهر الطاهر في اليوم التالي للمقتل.
لنلاحظ الرواية بدقة، فهي تقول: (لمّا قُتل الحسين (عليه السلام) أراد القوم أن يُطئوه الخيل فقالت فضة لزينب..)، فذهبت إلى الأسد المكنّى بأبي الحارث فقالت: (أتدري ما يُيدون أن يعملوا غداً بأبي عبد الله (ع)، يريدون أن يُطئوا الخيل ظهره)، أي أن فضة أخبرت الأسد أن الأعداء نيتهم في اليوم التالي أن يُطئوا الخيل الظَهر الشريف، ولم تقل عن وطئه في يوم عاشوراء يوم المقتل، وقد مشى الأسد في حماية الجسد الطاهر، فلذلك يمكن حمل حادثة الحماية على أنها في اليوم التالي، حيث أنهم أرادوا أن يمعنوا في الجريمة أكثر مما عملوا عند المقتل، إلا أن الأسد حال بينهم وبين ما يرمون إليه فانصرفوا.
نعم، إن الرواية لم تذكر الزمان فيما بعد، وذكرت الحدث فقط، وهو مشي الأسد وحراسته ثم مجيء الأعداء وانصرافهم، فهذا لا يدلّ على أن هذه الأحداث وقعت في نفس اليوم، ولا تدلّ إلا على الحدث وترتيبه فقط، واستفدنا أن الحادثة وقعت في اليوم الثاني من المقتل، من صريح ما ذكرته فضة من أن نيتهم هي ليوم غد، وقد أخبرته بعد المقتل بمدة زمنية، ولذلك علمت فضة عن نية القوم.
أما حادثة الرضّ المشهورة، فهي كما في نصّ زيارة الناحية وقعت بعد سقوط الإمام من على الخيل، بل تصرّح بأن الإمام روحي له الفداء قد كان به رمق فكان يدير عينه ناحية المخيّم، ويبدو أن هذه حادثة رضّ الصدر، أما حادثة رضّ الظهر وعموم الجسد فقد وقعت بعد شهادته سلام الله عليه على يد الأعداء، لأن الروايات صرّحت بأن عمر بن سعد انتدب عشرة من الجند ليُوطئوا جسد الإمام (عليه السلام)، بعد المقتل مباشرة، فداسته اليول بحوافرها في كل جانب، صَبّ الله عليهم لعناته ومن رضي بفعلهم إلى يوم الدين.
السيد محمود الموسوي
محرم الحرام 1444هـ
مقالات ذات صلة:
- هل كان زهير ابن القين عثمانياً؟ - 2022/08/11
- الزهراء وعظمة مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) وولده - 2022/08/08
- ما صحّت ما يقال أن الحسين صار كهيئة المحتضر عند وداع ولده علي الأكبر، وغارت عيناه في أم رأسه وأغمي عليه؟ - 2022/08/08
- متى قُتل العباس بن علي (ع) تحديداً؟ وهل هناك قول بأنه قُتل يوم التاسع وعلى أساسه يخصص البعض يوم التاسع للعباس.. - 2022/08/07
- نقلت الروايات أن الإمام الحسين لو ولد له مائة ولد لأسماهم باسم علي، فلماذا نجد له أولاداً بغير ذلك الاسم؟ - 2022/08/07
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
- ما حقيقة رأي الشيخ الصدوق في الشهادة الثالثة وسهو النبي؟ - 2024/05/30
- إشكال في خمس الأجير والموظف - 2024/05/28
- ما تقولون في الخواجة ربيع، والخواجة مراد، وأبي الصلت الهروي؟ - 2024/05/28
- هل يُكره الإقامة في كربلاء أكثر من ثلاثة أيام؟ - 2023/08/23
- هل أن دعاء التوسل بالسيدة فاطمة والسر المستودع فيها، وارد عن أهل البيت؟ - 2022/09/13
مقالات متفرقة:
- ما تقولون في الخواجة ربيع، والخواجة مراد، وأبي الصلت الهروي؟ - 2024/05/28
- ما رأيكم في واقع المنبر الحسيني؟ - 2016/10/08
- كيف يكون الله ضاراً نافعاً؟ - 2011/01/18
- متى قُتل العباس بن علي (ع) تحديداً؟ وهل هناك قول بأنه قُتل يوم التاسع وعلى أساسه يخصص البعض يوم التاسع للعباس.. - 2022/08/07
- الدورة الشهرية ، وسائل المرأة، والتوبة - 2010/08/10
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 48894 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35940 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33437 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 31707 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28457 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20483 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19800 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 19728 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19629 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15847 مرُة