نقل لي أحدهم مشككاً في حديث (يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما)، بأن هذا الحديث لا وجود له قبل عشرين سنة، ومصدره الوحيد هو مستدرك سفينة البحار للنمازي، وأنه عندما أضاف الجملتين الأخيرتين، قال وزاد بعضهم، فمن هؤلاء الذين أضافوا؟!

وكيف نأخذ رواياتنا بهذه الطريقة، وأن هذا منتشر على أفواه الخطباء بكثرة دون وعي وتأمل، وهذا يقلل من شأن النبي (ص)، لأنه بدلالة الحديث أصبح الحلقة الأضعف في أصل الخلق، حيث أن الأصل الأول فاطمة، ثم علي ثم النبي (ص)، مع اعترافنا بمقام الإمامة ومقام السيدة فاطمة الزهراء (ع).

فهل هذه الإشكالات صحيحة؟

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وآله الطاهرين.

إن هذا الحديث بتمامه قد أورده صاحب العوالم في موسوعته الحديثية قبل أكثر من ثلاثمائة سنة، وقد نقلها عن كتاب أسبق منه هو (الجنة العاصمة)، قال:

الجنّة العاصمة: قال: رأيت نسخة خطّيّة ثمينة لكتاب «كشف اللآلي» لصالح بن عبد الوهّاب العرندس، و حينما تصفّحت الكتاب صادفت فيه الحديث المذكور بهذا السند: الشيخ إبراهيم بن الحسن الذرّاق، عن الشيخ عليّ بن هلال الجزائري، عن الشيخ أحمد بن فهد الحلّي، عن الشيخ زين الدين علي بن الحسن الخازن الحائري، عن الشيخ أبي عبد اللّه محمّد بن مكّي الشهيد، بطرقه المتّصلة إلى أبي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى بن بابويه القمّي، بطريقه إلى جابر بن يزيد الجعفي، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري؛ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، عن اللّه تبارك و تعالى أنّه قال: يا أحمد! لو لاك لما خلقت‏ الأفلاك‏، ولو لا عليّ‏ لما خلقتك؛ ولو لا فاطمة لما خلقتكما. (عوالم العلوم، ج11، قسم1، ص43).

وعن كتاب (شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور)، للميرزا أبي الفضل الطهراني، قال:  

(وفي كتاب (مجمع النورين) للفاضل المرندي ص ،14 قال: وفي حديث القدسي لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، كما ذكره الوحيد البهبهاني، وروى في (بحر المعارف) لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك. وفي (ضياء العالمين) للشيخ أبي الحسن، الجد الأمّي الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، بزيادة فقرة "ولولا فاطمة لما خلقتكما"ـ [ونحوه في ص 187 من كتاب المرندي]. . . انتهى ما في (مجمع النورين). وتقدم في ج 1 شفاء الصدور ص 225 مصدر آخر لحديث لولا فاطمة لما خلقتكما، فراجع. (ج ٢، الحاج ميرزا أبي الفضل الطهراني، ص ٨٣).

ففيما يخص الإشكال على صحة الحديث، فإنه تبيّن أن الحديث لم يُوجده صاحب مستدرك سفينة البحار من عنده، وهو العالم الأمين الخبير في مجاله.

فهذا يكفي لاحتمال الصدور، وأن إدعاء الوضع، يحتاج إلى دليل يدل عليه. كما أن احتمالية الصدور، تلزمنا بالفهم الدلالي المنضبط مع الكتاب والسنة، ومن الواضح أن ما فهمه المُشكل من دلالة الرواية أنها تثبت أفضلية الإمام علي (ع) على النبي (ص)، وأفضلية سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) على أبيها وبعلها، بعيد كل البعد.

لنأتي لما نطرحه من فهم لهذه الرواية:

الشق الأول منها يقول: (يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك)، وهو مفاد حديث مشتهر عند العلماء كحديث قدسي، كما ذكره في (مناقب آل ابي طالب)، و(مشارق أنوار اليقين)، و(تأويل الآيات الظاهرة)، و(الوافي)، و(بحار الأنوار).

وهذا الشق يبين أن الغاية من خلق الأفلاك (وهي كناية عن العوالم أجمع) هي خلق النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، فلولاه لانتفت الغاية من خلق الأفلاك، إذ أن (لولا) تدل على امتناع الثاني من أجل وجود الأول، كما قالوا في اللغة.

وهذا يبيّن محورية الرسالة المحمدية في خلق الوجود كله، فالغاية هي أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويكون الدين كله لله برسالة النبي (ص)، فلولاك لا تعني لولا جهدك أو لولا فضلك، إنما تتحدث عن أصل خلقه المتصل بخلق العالم، وهذا ما يدعونا للقول بأن المتعلق هو الغاية من الخلق.

وفي الشق الثاني، (لولا علي لما خلقتك)، يبين التسلسل المحقّق لتلك الغاية العظمى، فإن ولاية الإمام علي (ع) باعتبارها جزءاً أساساً في امتداد رسالة النبي (ص)، فإن هذا الشقّ يبيّن أن الله لم يكن ليخلق النبي (ص) من دون وصي يحمل هم الرسالة من بعده.

وفي الشق الثالث، (لولا فاطمة لما خلقتكما)، يواصل اتصال الرسالة بنورها في تتابع الإمامة، التي عنوانها (فاطمة) باعتبارها الكوثر الذي تنحدر منه الإمامة، المحقق للغاية من خلق الخلق.

فلولاها لما خلق الله النبي والوصي، أي لم يكن الله ليخلق نبياً ووصياً دون بقية الأنوار المعصومين حتى خاتمهم وهو قائمهم الذي يتحقق به وراثة الله للأرض ومن عليها، والغاية من الخلق.

فدلالة الحديث تبيّن أن هناك سلسلة تحقق الغاية من الخلق، وعبارة (لولا) في الشقوق الثلاثة، لا تبين أفضلية الأول على الثاني كونه شرطاً لتحققه، وإنما تدل على حقائق قام عليها نظام الكون، وهذه السلسلة هي أجزاء مترابطة لا يمكن انفكاكها، ولا يمكن الإيمان ببعضها دون البعض.

ولكي نستجلي هذه المعاني بشكل أوثق، ونعي دلالات الرواية بانسجام مع معطيات ثوابت الدين، نقول:

1 - إن الله تعالى جعل الرحمة هي الغاية من الخلق، فإنه تعالى خلق الخلق ليرحمهم.

يقول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (سورة هود 119)

2 – وجعل الرحمة منحصر تحققها في رسالة النبي (ص).

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. (سورة الأنبياء 107)

3 – ومن ذلك ظهر لنا أن الغاية من الخلق هي رحمتهم برسالة النبي (ص)، فلهذا خلقهم، ولولا النبي (ص) لما خلق الخلق.

4 – وقد جعل الله رسالة النبي (ص) التي تمثل ولاية الله في الخلق، ذات امتداد بالولاية لأمير المؤمنين (ع).

قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}. (سورة المائدة 55).

ولا يمكن تجزئة الرسالة بفصلها عن ولاية أمير المؤمنين (ع)، فكما يصح أن نقول لولا النبوة والرسالة، لما كانت ولاية الإمام علي (ع)، وكذلك لولا ولايته لما خلق الله النبي (ص) القائم بأعباء الرسالة، إذ لا رسالة من دون ولاية بحسب النظام الإلهي.

فكلمة لولا علي، لا تعني لولا جهوده، أو لولا فضله، إنما تعني لولا خلقه من قبل الله تعالى، وهو فعل راجع لله عز وجل، مقابل فعل آخر، وهو خلق النبي (ص)، ولهذا قلنا أنه تعبير عن نظام الخلقة وغايتها، كنظام تام متصل يأبى الإنفكاك.

وبمعنى آخر، فإن الله تعالى في أصل الخلقة، جعل النظام الإلهي في ولايته الإلهية، والمحقق لغاياته من الخلق، بالرحمة، (النبي (ص) والوصي (ع))، كحالة واحدة، وهذا ما تؤيده روايات خلق نور النبي (ص) ونور الإمام علي (ع) من قبل أن يخلق الله الخلق كله.

5 – وبنفس المضمون، يمتد نور النبي في الأئمة من أهل البيت (ع)، فقد خلق الله تعالى فاطمة سلام الله عليها، ككفء للإمام علي (ع)، وليكون منها الامتداد الإثني عشري المحقق لغاية الرسالة على الأرض، وليرث الله الأرض ومن عليها، ويكون الدين كله لله بالإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف).

فالزهراء (ع) باعتبار أن الامتداد لنور الولاية متحققاً بها، وباعتبارها حجة عليهم كما في الحديث، فيصح قول (لولا فاطمة لما خلق الله النبي (ص) والوصي (ع))، إذ بدونها لم تكتمل الغاية من الخلق بتحقق الرحمة في الخلق، فهم سلام الله عليهم محال رحمة الله.

دفع إشكال التفضيل

أما القول بأن عبارة: (لولا فاطمة لما خلقتكما) تدل على تفضيلها على أبيها وبعلها، وهو باطل بضرورة العقيدة، فكما اسلفنا، فمدفوع بأنه يفهم التفاضل إذا كانت العلاقة المتصلة ب (لولا) عائدة على جهود ذاتية تعود على المذكور، مثل أن تقول: (لولا إنقاذك لي لهلكت)، فهنا يستفاد من العبارة فضل لمن أنقذ على آخر، ولو لم ينقذه لوقع عليه الهلاك، أو تقول: (لولاي لما أصبحت غنيا)، فيعود الفضل لي في ما أنت عليه من غنى، وهذا تفضيل من هذه الجهة.

أما إذا قلت: (لولا النار لما كانت حرارة)، فأنت لا تريد التفضيل بينهما، وإنما تبين العلة والمعلول، أي العلاقة الحقيقية بينهما التي لا تنفك، أي تعبير عن حقيقة ما، فلا يستفاد التفضيل، نعم يستفاد أن النار هي علة للحرارة، بحسب تعبيراتهم، ولكن لا يراد من ذلك التفضيل.

وقد ذكر أهل اللغة في معنى (لولا) أنها تفيد امتناع التالي بوجود الأول، أما نوع العلاقة بين الأول والتالي، فهو معنى زائد يستفاد من طبيعة العلاقة بينهما عقلياً، كما مثّلنا.

وبهذا التطبيق يكون معنى العبارة (يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما)، هو بيان حقيقة غاية الخلق، وأنها ضمن نظام إلهي مترابط، يأبى الانفكاك.

وبعبارة أخرى، فإن دلالته تؤكد أن الله تعالى إنما أراد تحقيق غايته في الخلق، بخلق المجموع المترابط من أول الخلق.

وعليه، فإن الكفر بالرسول ينفي الإيمان بالله، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا).

والكفر بالولاية ينفي الإيمان بالرسالة، والكفر بفاطمة وولدها الإثني عشر، ينفي الإيمان بالولاية والرسالة، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. (سورة المائدة 67)

وتحقق الإيمان الكامل هو بالإيمان الكامل بالرسالة والولاية في كامل امتداداتها، وهذا يؤيد مضمون العديد من الروايات التي أشارت إلى أن مجموعهم عليهم السلام هم غاية الخلق ولولاهم لما خلق الله الخلق، ولولاهم لما خلق الله الجنة والنار، وغيرها..

هذا ما نستظهره من المعاني، وقد يستفاد من الرواية معان أخرى، أو تتم المعالجات بطرق أخرى.

والله العالم والمسدّد

السيد محمود الموسوي

من مؤلفاتنا