بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبيه محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

لا شك من أن المقصود من يوم الغدير هو الإشارة إلى ذلك اليوم الذي أعلن فيه الرسول الأعظم (ص) بعد الانتهاء من حجة الوداع الولاية لأمير المؤمنين (ع) في حشود حجاج بيت الله الحرام الذين كانوا عائدين إلى أوطانهم، وقد كان ذلك في الثامن عشر من ذي الحجة.

والمقصود بأن يكون عيداً، أي أن يكون ذكرى هذه الحادثة في كل عام في الثامن عشر من ذي الحجة، هو يوم عيد.

وللإجابة على التساؤلات نذكر هذه النقاط المهمة، وبها تتضح الصورة إن شاء الله:

1 – التساؤل عن الدليل القرآني المتكرر عند البعض في كل صغيرة وكبيرة، هو نتيجة غفلة، وبعد بيان متكرر من العلماء وكما هو واضح، من أن القرآن الكريم نزل من عند الله ومعه مبيّن له وهو النبي (ص) وأهل بيته (ع)، ففيه أصول كل شيء بلا شك، إضافة إلى دليل السنّة وروايات أهل البيت (ع) التي هي عدل للقرآن الكريم، فبعد بيان ذلك والتساؤل المتكرر بحصر الدليل من القرآن الكريم، هو غفلة من السائل أو تبرير للادعاءات.

هذا مضافاً إلى أن التوافق مع القرآن الكريم، يتم بأنحاء متعددة، منها الذكر المباشر، ومنها ذكر الضوابط أو السنن العامّة التي تجري عليها فروع الأفكار والأحكام.

2 – الأصل في يوم الغدير هو استحضار يوم الولاية لأمير المؤمنين (ع) للذاكرة الإيمانية على مرّ العصور، وذلك للفائدة المرجوّة من هذا الاستدعاء، وهذه البصيرة نجدها في قول الله تعالى: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، فالغدير هو يوم من الأيام الإلهية المشهودة التي نزلت قبله آية (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، وبعد أن بلّغ النبي (ص) ما أنزل إليه من الولاية لعلي (عليه السلام)، نزلت آية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، فوجب أن يكون هذا اليوم المحفوف بالآيات العظيمة التي حفرت أهميته في إيمان الإنسان، والذي من دونه يكون الإيمان ناقصاً لا نفع فيه، محل تذكير دائم وحضور راسخ لتعزيز هذا المفهوم.

فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْوَلَايَةِ وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْ‏ءٍ مَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ يَوْمَ‏ الْغَدِيرِ. الكافي ج2، ص21

وأما ما يظهره المؤمنون من الفرح والسرور، واعتباره عيداً، فإن المؤمن يحدّد فرحه وسروره بما يُنجز من الحق على أرض الواقع، فكلّما أحييت سنّة من سنن الله تعالى، وأميتت بدعة، فيكون ذلك مدعاة لفرح المؤمن، فتحقيق الحق وتنجّزه في الواقع هو نصر إلهي، لأن النصر هو عبارة عن ظهور الحق وتحقّقه، وهو درجات ومقامات، فإن كتاب الله تعالى قال عن غلبة الروم: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ)، لأن في ذلك غلبة لمساحة من الإيمان بالله مقابل الإلحاد والكفر، وأما الغدير وهو يوم الولاية التي اكتمل بها الدين وتمّت به نعمة الرب جل جلاله، فهو أعظم نصر لله تعالى يتحقّق على أرض الواقع، وهو أولى من غيره بأن يُظهر في تجدّد ذكره الفرح والسرور والشكر والامتنان.

ولأنه يوم انتصار النبي الأعظم (ص) بإعلان الولاية، وهي الحجة على أهل العالم، ويفرح به المؤمنون، فإن في المقابل يكون هذا اليوم يوم بؤس وحزن وألم للشيطان ولأعوان الشيطان وأتباعه، وكل من فيه نفحة من الشيطان تراه يتميّز غيظاً بمجرّد ذكر يوم الغدير، ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه: (إِنَّ إِبْلِيسَ عَدُوُّ اللَّهِ رَنَّ أَرْبَعَ رَنَّاتٍ: يَوْمَ لُعِنَ، وَ يَوْمَ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ يَوْمَ‏ الْغَدِيرِ). قرب الإسناد/9. ولذلك أيضاً ورد أن في الانقلاب على هذا اليوم كان سوم سعادة للشيطان كما في نص الروايات.

فإن أصالة الفرح والسرور والاحتفال بيوم الغدير نابعة من بصائر القرآن الكريم بلا ريب.

3 – إن من النتائج الخاطئة التي تنتهجها بعض البحوث، هو التعامل مع البحث التاريخي بمنهج خاطئ، فيعتقد البعض أن ذريعة ظهور الاحتفال بعيد الغدير لم تكن سنّة جارية في عهد الأئمة المعصومين (ع)، وبالتالي فإن النتيجة الموهومة التي يخرج بها، هي أن الغدير أمر حادث وطارئ، استحدثته بعض الدول الشيعية لتقوية سلطانها، وهذا منهج مليئ بالمغالطات والثغرات.

إن أهل البيت (ع) قد بيّنوا الكثير من الأحكام وبثّوا تعاليم الدين طيلة حياتهم، إلا أن التطبيق والظهور قد لا يتأتى لهم، أو أنه يكون موجوداً إلا أنه غير ظاهر، أو أنه كان ظاهراً ولكنه لم يصل إلينا، وهكذا تتابع الاحتمالات بسبب الظروف الصعبة التي كانت تحفّ بحياة أهل البيت (ع)، وأبرز مثال على ذلك هي زيارة الإمام الحسين (ع) التي ثبت باليقين ضرورتها وضرورة الإكثار منها لما تحتويه من ثواب عظيم، إلا أن واقع الزيارة كتطبيق للروايات التي كانت تصدر عن أهل البيت (ع)، لم يكن يتحقّق إلا بشكل نسبي، وقد تمرّ عليه أزمان تنحسر كل مظاهر الزيارة بما تحتويه من شعائر مصاحبة، وقد تمرّ أزمان تتاح الفرصة وتقوى العزيمة في المجتمع فتظهر الحشود الزائرة بمصاحبة الشعائر اللصيقة بها.

فإن ظهور احتفالات يوم الغدير على أيد بعض الدول الشيعية، لم يكن تأسيساً لحالة الاحتفال، بل كانت مرحلة تطبيق في واقع اجتمعت فيه الظروف السياسية والاجتماعية، وإن ما يتحدّث عنه البعض من إحياء عيد الغدير في الدولة الفاطمية والصفوية، إنما كان ذلك أن يوم الغدير أصبح بقانون رسمي من الدولة الحاكمة، يوم عيد قد سمحوا وشجّعوا أن تظهر فيه مراسيم الفرح والسرور وسائر أنواع الإحياء الواردة عن أهل البيت (ع) في هذا اليوم.

4 – لقد وردت مجموعة روايات عن أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم) في شأن يوم الغدير، وأنه يوم عيد، ويوم فرح وسرور، ويوم ينبغي أن تظهر فيه الحالة الاحتفالية، ومنها إحياء شعيرة الزيارة لأمير المؤمنين (ع)، ومنها الصدقات وإطعام الطعام، وذكر الله تعالى وحمده.

ففي الخصال: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: وَيَوْمُ‏ الْغَدِيرِ أَفْضَلُ الْأَعْيَادِ، وَهُوَ ثَامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.. ج2، ص394.

وفي تفسير فرات الكوفي: : عن الصادق في حديث له حول يوم‏ الغدير: هو يوم عبادة وصلاة وشكر وحمد وسرور لما منّ اللّه به عليكم من ولايتنا، وإنّي أحبّ لكم أن تصوموه. ص661

بل وقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنه كان يهتم بإحياء عيد الغدير كيوم فرح وسرور وشكر وعطاء وذكر، بحيث يغيّر أحواله وأحوال المحيطين به كي تبدو سعيدة مبهجة.

أورد الطوسي في المصباح: عن الْفَيَّاض بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الطَّرَسُوسِيُ‏ بِطُوسَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَدْ بَلَغَ التِّسْعِينَ‏، أَنَّهُ شَهِدَ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا (ع) فِي يَوْمِ الْغَدِيرِ وَبِحَضْرَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ خَاصَّتِهِ، قَدِ احْتَبَسَهُمْ لِلْإِفْطَارِ وَقَدْ قَدَّمَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ الطَّعَامَ وَالْبِرَّ وَالصِّلَاتِ وَالْكِسْوَةَ حَتَّى‏ الْخَوَاتِيمَ‏ وَالنِّعَالَ، وَقَدْ غَيَّرَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ حَاشِيَتِهِ، وَجُدِّدَتْ لَهُ آلَةٌ غَيْرُ الْآلَةِ الَّتِي جَرَى الرَّسْمُ بِابْتِذَالِهَا قَبْلَ يَوْمِهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ فَضْلَ الْيَوْمِ وَ قِدَمَه‏...ج2، ص752

وقد بيّن الإمام الرضا (ع) لمن أنكر فضل يوم الغدير وعظمة إحيائه بالفرح والسرور والتعظيم، أن عظمته في السماء أكبر من عظمته في الأرض لكي يعلم أن مقدار ما يظهر من السرور في الأرض ما هو إلا نزر يسير لا يفي بحق هذا اليوم العظيم.

جاء في الغارات: عن أحمد بن أبي نصر قال: كنّا عند الرّضا (عليه السّلام) والمجلس غاصّ بأهله، فتذاكروا يوم‏ الغدير، فأنكر بعض النّاس. فقال الرّضا (عليه السّلام): حدّثني أبي عن أبيه (عليهم السّلام) قال: إنّ يوم‏ الغدير في السّماء أشهر منه في الأرض؛ انّ للَّه في الفردوس الأعلى قصراً لبنة منه من فضّة ولبنة من ذهب، فيه مائة ألف قبّة من ياقوتة حمراء، ومائة ألف خيمة من ياقوت أخضر، ترابه المسك والعنبر، فيه أربعة أنهار؛ نهر من خمر ونهر من ماء ونهر من لبن ونهر من عسل، حواليه أشجار جميع الفواكه، وعليه طيور أبدانها من لؤلؤ وأجنحتها من ياقوت، تصوت بألوان الأصوات، إذا كان يوم‏ الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السّماوات يسبّحون للَّه ويهلّلونه، فتطاير تلك الطّيور، فتقع في الماء وتمرّغ إلى ذلك المسك والعنبر، فإذا اجتمعت الملائكة طارت فنفض ذلك عليهم وانّهم في ذلك اليوم ليتهادون نثار فاطمة (عليها السّلام)، فإذا كان آخر اليوم نودوا: انصرفوا إلى مراتبكم فقد أمنتم الخطأ والزّلل إلى قابل مثل هذا اليوم، تكرمة لمحمّد صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم وعليّ.

ثمّ قال: يا ابن أبي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عليه السّلام) فانّ اللَّه يغفر لكلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستّين سنة، ويعتق من النّار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، والدّرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، وأفضل على إخوانك في هذا اليوم، وسرّ فيه كلّ مؤمن ومؤمنة.

ثمّ قال: يا أهل الكوفة، لقد أعطيتم خيراً كثيراً وأنتم لممّن امتحن اللَّه قلبه للايمان مستذلّون مقهورون ممتحنون، ليصبّ البلاء عليكم صبّا ثمّ يكشفه كاشف الكرب العظيم. واللَّه لو عرف النّاس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كلّ يوم عشر مرّات. ولو لا التّطويل لذكرت في فضل هذا اليوم ما لا يحصى. الغارات، ج2، ص858

5 – ولفضل يوم الغدير وعظمته في السماء والأرض، اتباعاً لبصائر القرآن وهدي أهل بيت النبوة وسيرتهم العطرة، أخذ الشيعة الموالون بتحيّنون الفرص لإحياء هذا اليوم وإظهار الفرح والسرور، سواء عند قبر أمير المؤمنين (ع) أو في أي مكان وجدوا، وقد ذكرت بعض كتب التاريخ بعض تلك المظاهر، ومنها ما ذكره المسعودي المتوفى سنة 346 هجرية في كتابه التنبيه والأشراف: (وفي منصرفه (أي النبي (ص)) عن الحديبيّة قال لأمير المؤمنين على بن أبى طالب (رضى الله عنه) بغدير خم، من كنت مولاه فعلي مولاه، وذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة.

وغدير خم يقرب من الماء المعروف بالخرار بناحية الجحفة، وولد على رضى الله عنه وشيعته يعظمون هذا اليوم). ج2، ص221.

 والحمد لله على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب عزّ وجلّ.

السيد محمود الموسوي

من مؤلفاتنا