وهي: (اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِك).

شكراً لكم.

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

المناجاة الشعبانية واردة عن أمير المؤمنين (ع)، وورد بأن أهل البيت (ع) كانوا جميعاً يناجون بها الله تعالى.

هناك عدة آراء في مقام تفسير عبارة (حجب النور) الواردة في المناجاة الشعبانية، وتباينها متباعد جداً عن بعضه البعض، سنعرض هذه الآراء ثم نقدّم مقاربتنا.

1-   الأول: أن حجب النور هي كل الموجودات، لأنه بحسب المدّعى كل الموجودات ما عدا الله عز وجل، هي وجود وماهية، والوجود نور والنور وجود، فكل وجود هو من الحجب النورانية، أما الماهية التي هي ـ بحسبهم ـ لا موجودة ولا معدومة، فتكون من الحجب الظلمانية. فإزالة الحجب وهي كل الموجودات حقيقته الترقّي للوصول إلى الفناء في الحق، كما هي مباني أهل العرفان. وهو رأي واضح البطلان؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ومقولة الفناء تتكئ على المجانسة بين الخلق وبين الخالق واتحاد الوجود ولو بمقولة الرّتب، وهذا خلاف (الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه) كما في الروايات.

2-   الثاني: أن حجب النور هي الحجب المعنوية مقابل المادية، ولا يبدو هذا صحيحاً، لأن الحجب الظلمانية هي حجب معنوية في الأساس.

3-   الثالث: أن حجب النور هي كل ما هو نور فهو حجاب، مثل العلم وغيره، فبعد أن يتخطّى حجب الظلمة ينتقل إلى حجب النور، ولكن كيف يتخطّى حجاب العلم والتقوى وغيره؟ فقيل أن الاشتغال بالنور عن نور الأنوار وهو الله هو بحد ذاته حجاب. وبعض قال أن كل ما دون الله فهو حجاب كما هو مفاد الرأي الأول، ولذا قال بعضهم أن المقصود من حجب النور في الدعاء هو كل نور ما دون أهل البيت (ع)، فهم النور الذي لا يمكن تخطّيه. ويبدو أن هذا استقراب عام لا يعتمد على أسس واضحة في خصوص المقصود. لأن هذا الفهم سيقع في إشكاليات اعتبار أهل البيت (ع) حجاب مانع للوصول إلى الله تعالى، أو إشكال تخصيص العبارة بما دون أهل البيت (ع) وهو تخصيص بلا مخصّص.

4-   الرابع: أن حجب النور، هي على المفعولية، أي أنها الحجب التي تحجب النور، وهي كل الحجب التي تحجب المخلوق عن خالقه من الظلم والجهل واتباع الشهوات وغيرها. وهو وجه بسيط ومحتمل.

5-   الخامس: أن حجب النور هي مقابل الحجب الظلمانية التي مصدرها الشهوات، وحجب النور هي المتعلّقة بالعبادات التي هي نور، فحُجُبها هي مثل العجب والرياء وغيره مما يبطل العبادات أو يؤثر علىها. وهذا الرأي شبيه بالرابع ولكن مع تخصيصه بحجب نور العبادات.

6-   السادس: حجب النور هي الحجب التي في السماء السابعة أو فوقها، والتي توقّف عندها جبرئيل عندما كان يرافق نبينا محمد (ص) في رحلة المعراج، فلا يتمكّن إلا النبي من الدخول إليه. وهذا الرأي مستقرب، ولكن يبقى التساؤل لماذا جاءت المناجاة بالطلب من الله تعالى إنارة الأبصار حتى تخرج حجب النور، ما دام الدليل ثابت في عدم البلوغ إلا لسيد الرسل (ص)؟

يبدو للنظر القاصر أن الوصول إلى المقصود من (حجب النور) لا يمكن إلا من خلال مفادات الوحي المقدّس، فما قدّمه أهل العرفان وأهل الفلسفة من معان ما هي إلا تخيلات معتمدة على نظريات بشرية هي موضع جدل شديد عند فقهاء الشيعة منذ قديم الزمان.

فلا يسعنا إلا أن نحاول الوصول إلى مقصد محدد من مصادر الوحي باعتبار أن ذلك من الغيب، أو نحاول في مقاربة دلالية من خلال معطيات الوحي كتاباً وسنة.

إن مفهوم (الحجاب) في الروايات الشريفة له آفاق متعددة، ولكن ما يبدو في المناجاة الشعبانية أن الحجب المذكورة هي المتعلقة بالقلوب (وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك) فالمناجي يطلب من الله تعالى أن ينير بصر قلبه، ويستنير القلب بضياء النظر القلبي لله تعالى، ثم يقول: (حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور) أي حينها تخرق الأبصار المضاءة حجبَ النور، وعندها (فتصل إلى معدن العظمة..).

وقبل محاولة استجلاء المعنى فلابد أن نضع محكمات الدين أمامنا فنمنع أي فهم للحجاب على النحو المادي أو الجهتي حسب ما يفهمه البشر، لأن المتعلّق ولو من جهة من الجهات هو الله تعالى عن الحد والجهة.

وهذا يقودنا إلى البحث عن الحجب المعنوية التي هي خارج مقايسات المادة، وقد ورد في الروايات الشريفة أن في عالم السماوات حجباً عديدة، ومنها ما أطلق عليه (حجب النور) كما ور عن أمير المؤمنين (ع):

في توحيد الصدوق: وَسُئِلَ أمير المؤمنين (ع) عَنِ الْحُجُبِ فَقَالَ أَوَّلُ الْحُجُبِ سَبْعَةٌ غِلَظُ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ... إلى أن قال: مِنْهَا ظُلْمَةٌ وَمِنْهَا نُورٌ وَمِنْهَا نَارٌ وَمِنْهَا دُخَانٌ وَمِنْهَا سَحَابٌ وَمِنْهَا بَرْقٌ وَمِنْهَا مَطَرٌ وَمِنْهَا رَعْدٌ وَمِنْهَا ضَوْءٌ وَمِنْهَا رَمْلٌ وَمِنْهَا جَبَلٌ وَمِنْهَا عَجَاجٌ وَمِنْهَا مَاءٌ وَمِنْهَا أَنْهَارٌ وَهِيَ حُجُبٌ مُخْتَلِفَةٌ غِلَظُ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ أَلْفَ عَامٍ..

وما يقرّب المعنى من حجب النور الواردة في المناجاة للاشتراك في معنى القرب من الله حيث ذكرت المناجاة فيما بعد (فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ)، مما يقرّب ذلك هي رواية المعراج التي جاء فيها أن النبي (ص) عندما تقدّم مع جبرائيل ثم توقف جبرائيل وتقدّم النبي (ص) إلى حيث الحجب التي لا يخترقها إلا النبي (ص) وهي حجب تتلألأ، إلى أن وصل (معنوياً) إلى (نور العظمة) ثم خاطبه الله تعالى.

والرواية كالتالي:

في الكافي عن الصادق (ع): عن معراج النبي (ص).. فَقَالَ كَانَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ‏ يَتَلَأْلَأُ يَخْفِقُ‏ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا وَقَدْ قَالَ زَبَرْجَدٌ، فَنَظَرَ فِي مِثْلِ سَمِّ الْإِبْرَةِ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ نُورِ الْعَظَمَةِ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: لَبَّيْكَ رَبِّي، قَالَ: مَنْ لِأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ وَقَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ‏ قَالَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) لِأَبِي بَصِيرٍ، يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا جَاءَتْ وَلَايَةُ عَلِيٍّ (ع) مِنَ الْأَرْضِ وَلَكِنْ جَاءَتْ مِنَ السَّمَاءِ مُشَافَهَةً.

فإذا استقربنا معنى حجب النور بأنها الحجب النورية تلك، وهي حكاية عن الحجب المعنوية بصورة حدث يشعر بالمادية، فهذا يعني أنها تعني ما يمكن أن نسميه المسافات المعنوية التي يقطعها العابد للوصول إلى حالة القرب الإلهي، بل هو قرب خاص جداً، فهذا يقودنا إلى التساؤل عن أهلية الإنسان للوصول إلى اختراق تلك الحجب؟

وقد التفت إلى هذا المعنى أهل العرفان فجعلوا ذلك داعماً للكشف والشهور العرفاني الذي يعتقدونه، وهو إمكان الإنسان أن يكون كاملاً بحيث يتخطّى كل الحجب بما في ذلك الأنبياء والأئمة، ليصل إلى ما يسمونه الفناء في الله، سبحانه وتعالى عما يصفون، إلا أننا لابد أن نفهم ذلك ضمن محكمات الدين ومحدداته كما أسلفنا.

فالروايات دلّت على أن هذه الحجب لا يمكن خرقها إلا للنبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيته الأطهار (سلام الله عليهم)، فهذا محدّد مهم في عملية الفهم، فإذا انطلقنا للفهم في هذا الاتجاه، فإنه يمكن أن نفسّر ذلك الاختراق لعالم حجب النور بأنه اختراق من قبل النبي (ص) وأهل بيته (ع)، كيف؟

لنأتي للبيان السياقي، فقد جاء في المناجاة )اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ)، فهو دعاء من العبد أن يهب الله له الانقطاع الكامل لله تعالى، أي أن تكون أعماله وأوراده كلها ورداً واحداً وحاله في خدمة الله سرمداً كما في دعاء كميل، أي بالمعنى الرسالي للانقطاع وليس المعنى العرفاني الصوفي الذي يقصد من الانقطاع أنه خصوص الانعزال بالعبادة والأذكار دون العمل بالأدوار والمسؤوليات الربانية في الاجتماع والتوعية وغيرها.

وبعد سؤال ذلك الانقطاع، يقول (وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ)، فيطلب إنارة القلوب بضياء النظر لله، وهو انعكاس لذلك الانقطاع الكامل، وهو زيادة الهدى الذي قال تعالى عن أهل الكهف (إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى)، وهذه الحالة من الكمال والتكامل بفضل الله تعالى، تؤدي به إلى (حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ)، وذلك الوصول لا يتم للإنسان بذاته؛ لأنه ممتنع حسب الروايات الشريفة، ولكن يتم عبر النبي (ص) وأهل بيته (ع)، بتولّيهم والتمسّك بهم والتوسّل بهم، فأبصار القلوب التي تخرق الحجب ليست هي أبصار قلوبنا في الفقرة التي سبقتها، حيث جاء (تخرق القلوب) ولعل التعريف للعهدية العلمية، أو يمكن أن يقال بأن نسبتها للعابد كونه اخترق تلك الحجب بواسطة أهل البيت (ع)، فنسبتها للطالب مع أن الفاعل الحقيقي هم أهل بيت العصمة، كما هي نسبة بعض ما جاء من أفعال أولياء الله إلى الله تعالى. والله ولي العلم.

وعلى كل حال فهذه مقاربة للفهم الصحيح، ويمكن أن تفهم بأنها الحجب التي تحجب النور، فلن يحتاج إلى عناء تقويم البحث والنظر، وإن كان ماذكرنا نراه أقرب.

والله أعلم بخفيات الأمور

من مؤلفاتنا