(قصة قصيرة)
تمهيد: كيف يمكن أن نحسب الزمن الذي عشناه ؟
.هلنعدّه بالساعات أو الأيام أو بالأسابيع والشهور والسنين ؟؟
أعتقد أنه ليس بكلذلك .. إنه بالتجربة التي مررنا بها ، وبالعبر التي ننهلها من تلك التجارب ..
إنعمر الإنسان محدّد بتلك المقاطع التي يمر بها .. فقد يكون عمرك عشرين سنة إلا أنكمررت بتجارب أربعين سنة .. فسيكون ذلك هو محصّل عمرك .. بل هو قيمةعمرك..
هذه بعض المقاطع الزمنية التي عشتها فترة دراستي في الكويت في مدرسةالرسول الأعظم (ص) .. راجياً أن يكون بها شيئ منالإعتبار..
(1)
كتاب (سلوني قبل أن تفقدوني) يمشي علىرجلين !!
ساحة مدرسة الرسول الأعظم (ص) في الكويت واسعة و تحيط بهاالغرف من كل جانب (وبعضها سكن لبعض العلماء) ، سماؤ المدرسة مفتوح .. وبها رواقمظلّل .. إنها منشرحة بالفعل .. يمكنك أن تسرح بالتفكير فيها .. وتكون كالفلاسفةالمشّائين ..
يمكنك أن تتواصل ببصرك مع السماء متأملاً فيما فيها من مجرات ..
قمر منير ..
وشمس مضيئة ..
و كل ما يشرح النفس تجده في بنائها..
صرح علمي لطالما آوى العلماء والفقهاء ..
دقّ جرس الباب ..
أخذالحاج الأفغاني العامل في المدرسة بالقيام متثاقلاً .. لأنه كبير السن ، فتح الباب .. فأطلّ من الخارج عالم نوراني تحيطه الهيبة والوقار ..
قال الشيخ : السلامعليكم ...
رد عليه العامل : وعليكم السلام .. تفضل سماحة الشيخ .. غرفتكجاهزة..
عافاك الله ..
***
سيد محمود ذو الثمانية عشرعاماً في غرفته الصغيرة في الطابق العلوي من المدرسة ، يتصّفح بعض الكتب .. تتناهىإلى سمعه حركة في الأسفل .. فالمدرسة هادئة جداً .. خرج إلى الرواق ، ورمى ببصرهنحو الأسفل وهو متكئ على السياج .. شاهد أحد العلماء من الخلف يدخل غرفة من غرفالمدرسة ، ويطبق على نفسه الباب ..
من هذا الضيف الجديد ؟؟
هذا ماجال في خلده ..
نزل على السلّم ، وسأل العامل الأفغاني : من جاءنا اليوم ،كأني رأيت أحد العلماء ؟
قال عامل المدرسة بصوت منخفض : نعم ، إنه الشيخ محدرضا الحكيمي.
دهشة أصابت سيد محمود ..من؟! .. هل هو مؤلّف كتاب (سلوني قبلأن تفقدوني)؟؟
العامل : نعم يابني ..
هنا تراجع الزمن للوراء قليلاً ..
انتاب سيد محمود إحساس آخر ..
رجعت الذكريات إلى الوراء .. عندما كان يخرج من مدرسة أحمد العمران الثانوية (الحورة) ..
متجها مع زملائه .. ناحية المنامة مشياً على الأقدام ، ليمّر بالمكتبة ..
فقد كان يجمع مصروفهاليومي ليشتري كتاباً نهاية كل أسبوع ..
تلك المكتبة التي كانت في أزقّةالمنامة اسمها مكتبة الإرشاد .. يدخلها ويشتري كتاب (سلوني قبل أن تفقدوني(..
والبائع هو رجل من نفس قريته ، ولم يكن يعلم حينها أن هذا الرجل سيكون فييوم من الأيام عمّه (أبو زوجته)..
يعلم فقط أنه يحبه لأنه يعيش بين الكتب ..
طالما سهر الليالي مع هذا الكتاب ..
يقرأ فضائل أمير المؤمنين ،وأخلاقياته .. و حكمه وقضاؤه .. كتاب مكوّن من جزئين ، يرسم حياة أمير المؤمنين (ع) حركة ملؤها الفضائل .. إنه يجعلك تعيش في زمن علي عليه السلام..
قفل سيدمحمود راجعاً بذاكرته إلى الحاضر ..
وعاش لحظته .. إنه الآن في الكويت .. ومؤلف ذلك الكتاب معه في مبنى واحد ..
تمنّى أن يخرج هذا الشيخ الجليل ليراهويجلس معه..
لم يهدأ لحظة واحدة ..
متى يخرج هذا الشيخ من غرفته.. آه .. إنه صوت الأذان يشنّف الأسماع ..
إذاً كان لابد أن يخرج وقت الأذان ..
وبالفعل كان ذلك..
خرج رجل تتقدّمه الهيبة ..
مشى مقتصداً فيمشيه نحو دورات المياه ..
أسبغ الوضوء.. وصلّى صلاة الخاشعين..
ماشاء الله .. لم يتوقع سيد محمود أن يكون الشيخ بهذا السن .. إنه كبير ، لحيتهمشتعلة شيباً ولا أثر للسواد فيها.. وقامته قصيرة .. خاشع في حياته ، وكأنه في صلاةدائمة .. نعم هو في صلة مع ربّه غير منقطع ..
وبعد أن أقام سيد محمود الصلاة .. أسرع نحو الشيخ ..
السلام عليكم..
وعليكم السلام .. تقبّل اللهأعمالكم..
الحمد لله على سلامتكم..
رفع الشيخ طرفه مبتسماً .. وسألسيد محمود : من أين أنت؟
سيد محمود : من البحرين يا شيخنا ..
الشيخ : ما شاء الله ، وكيف الحال عندكم وكيف الضيق والظلم .. سمعت أن بعض كتبي ممنوعةهناك ..
أخبره بالحال الذي عليه البحرين .. وتحدث عن الكتب ..
نعمتمنع الكتب التي تحكي عقيدة أهل البيت (ع) .. وبعض كتب الفضائل .. فكتاب سلوني قبلأن تفقدوني ، منع عدّة مرات .. إلا أنهم سمحوا به مؤخراً ..
فترةالمساء
دخل سيد محمود على الطلبة الذين معه وأغلبهم من المنطقة الشرقية، وبعضهم خطباء ، جاؤا الكويت ليرتقوا المنبر الحسيني في ذلك الموسم ..
أسمعتم بمجيء الشيخ الحكيمي ؟؟
نعم سمعنا .. إنه نِعمَ الشيخ ..
ما رأيكم أن ندعوه على وجبة غداء ؟
ابتسم الطلبة .. وقالوا .. فكرة طيبة ، إلا أننا لا نفقه في الطبخ شيئاً..
قال لهم : أنا أعرف الطبخنوعاً ما..
فقبل سفري .. دخلت مع والدتي المطبخ أياماً عديدة ، وعلّمتنيالكثير ..
قالوا : ونحن نساعدك ..
وبالفعل .. وجّه الطلبة دعوتهمللشيخ ، الذي رحب و وافق على الفور ..
خرج سيد محمود مع اثنين من الطلبةلجمعية (الدسمة وبنيد القار) التي كانت قريبة من المدرسة .. واشتروا اللوازم .. لحم، ورز ، وبعض الخضار ، والفاكهة ..
دخل المطبخ حينها خمسة من الطلبة .. وكلهم يعملون .. شخص يقشّر البطاطس ، وآخر يقطّع الخضار ، وآخر يغسل اللحم ويقطّعه ..
جهز الغداء .. ووضعوه في سفرة طويلة .. ووضعوا أكبر صحن في صدر المائدة، حيث سيجلسون الشيخ كرامة وتقديراً له..
حان الوقت ..
وجاء الشيخ ،سلّم على الجميع بابتسامته الوديعة .. جلس على المائدة وذكر الله كثيراً .. وابتدأفي تناول الطعام ..
جميع الطلبة كانوا يراقبون الشيخ ..وهم يأكلون ..
مدّ يده ، وتناول الطعام بثلاث أصابع ..
لقمة ..
لقمتان .
.ثلاث لقمات.. توقف بعدها عن الأكل ..
شيخنا .. تفضلوا .. تسابقالطلبة في قول هذه الكلمة للشيخ لكي يستمر في تناوله الغداء..
قال : الحمدلله رب العالمين .. أنهى غداءه بثلاث لقمات بثلاث أصابع ..
**
في صباح يوم من الأيام القليلة التي قضاها الشيخ فيالمدرسة ..
استيقظ باكراً .. أخذ ثيابه وعمامته .. وغسلها بيديه .. ثمنشرها على الحبل .. وكان يلهج لسانه بذكر الله دائماً ..
أيام عاشها سيدمحمود مع هذا الشيخ الجليل .. كان يخرج معه لحضور مجلس الشيخ المرحوم الدكتور أحمدالوائلي .. ومجالس الشيخ مرتضى الشاهرودي .. كانت أياماً حافلة ..
جاء فيخاطر سيد محمود .. أن هذا الشيخ الفاضل ، يجسّد أخلاق أمير المؤمنين .. وكان يتذكرما قرأه من كتابه (سلوني قبل أن تفقدوني ..(
نعم هو ذا الكتاب يمشي علىرجلين ..
الرحيل
حزم الشيخ أمتعته مستعداً للسفر إلى إيرانحيث أهله وأولاده ..
اجتمع الطلبة حوله ..
قال أحدهم .. سمعنا أنالسيد الشيرازي مريض ..
قال الشيخ : نعم .. وقد تعافى بفضل الله ..
قال الطلبة أنهم سيكتبون رسائل إلى السيد الشيرازي بمناسبة شفائه .. ليحملها الشيخ معه مادام أنه متجه إلى إيران .. وبالفعل كتبوا رسائلهم القصيرة ..
وجّه سيد محمود كلامه للشيخ : شيخنا هذه رسائل أحببنا أن نكتبها للسيدالشيرازي ، فهل يمكنكم أن توصلوها إليه ..
رد الشيخ قائلاً : إنني لن أرىسماحة السيد .. لن أوفق لرؤيته .. إني متجه إلى أهلي في إحدى المدنالإيرانية..
قال له سيد محمود : لا بأس ، ولو بعد حين ..
ابتسم الشيخابتسامة لا تنسى لما تحمل من براءة ، وإشراق .. وقال : أعطني إياها ، سأوصي بعضالأهل أن يوصلوها إليه ..
ودّع الطلبة الشيخ الحكيمي .. وكأنهم قد سلبواالبهاء ، والهيبة ..
لطالما آنسهم وأفادهم بأفعاله قبل أقواله .. لقد كانتروحه تضفي على أجواء المدرسة حلل من الآداب والإيمان والخشوع ..
سيد محمودفكّر في تردد الشيخ في استلام الرسائل .. وأخذت الخواطر تجوالها في تفكيره .. إلاأنه أسكنها بجواب عام .. لعل الشيخ دقيق وحريص على أن تصل الرسائل في وقتمبكّر..
وصل الشيخ الحكيمي إلى أهله .. استقبلوه بحفاوة الملهوف إلى أبيهم .. وقرّة عينهم ..
احتضنهم بابتسامته البهية .. قبل أن يحتضنهم بصدره الحاني ..
اجتمع حوله الأهل في بيته .. سلّمهم الرسائل الأمانة ، أوصاهم أن يرسلوهاللسيد الشيرازي في قم المقدّسة ..
فوضع الشيخ رأسه على الوسادة ..
واستقبل القبلة ..
وودّع أهله ..
ثم ودّع الدنيا ..
في رحلة إلى الله تعالى ..
ففاضت روحه الربّانية ..
فلقد كانعلى موعد مع الموت بين أهله .. رحمه الله .. وأسكنه فسيح جنّاته مع الرسول وأهلبيته ..
وصل الخبر إلى الكويت .. فحزن الطلبة على فراقه ..
وعرفواأن تردّده في استقبال الرسائل ، لأنه كان على موعد مع ربّه..
و حينها ..
عرف سيد محمود معنى ذلك الإشراق الذي كسا تلك الابتسامة التي لا تنسى ..
انتهت
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 49028 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35948 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33870 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 32120 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28587 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20507 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 20033 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19916 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19848 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15918 مرُة