وبما أن العالم يشهد حوادث عديدة لعل أبرزها موجة العنف غير المسبوقة هذه يصبح من المهم التعرف على الكيفية التي يقرأ بها المثقفون هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر الأخرى...
وتحمل هذه الايام معها بذورا لتأسيس مراحل مهمة جديدة من التاريخ عبر مفاهيم ظهرت الى الساحة بإشكاليات تبحث عن تغيير للواقع المتأزم، مثل اشكالية الاصلاح وتعريف مفهوم الارهاب وتزلزل الديكتاتوريات المهترئة ونزول الجماهير الى الشوارع.
ومن هنا استطلعنا رأي سماحة السيد محمود الموسوي حول هذه الموضوعات، واجابنا عن اسئلتنا مشكورا.
س1: ما هي برأيكم الأسباب التي تدفع بعض الجماعات العربية والإسلامية لممارسة التطرف والإرهاب؟ وما هي أهم النتائج التي تتمخض عن التطرف والإرهاب؟
ج: أحياناً يتم الحديث عن ظاهرة العنف المجرّدة تجاه السلطات، كأسلوب تمارسه الجماعات الإسلامية للوصول إلى أهدافها السياسية، وهذا النوع من الممارسة قد يكون مبرّراً في حال استخدام السلطة الأسلوب نفسه في إخماد مطالبات الناس لحقوقها، وهذا ثابت حيال الأنظمة العربية التي تحاول الحفاظ على سلطتها من خلال القمع، إلا أن الشيء غير المبرر إطلاقاً هو استخدام العنف في الممارسة الدينية بشكل مطلق، أو في الممارسة السياسية بشكل ابتدائي، وهذا أحد مصاديق التطرف والإرهاب.
وأسباب مثل هذا التطرف هي الخلفية الفكرية التي تعيشها هذه الجماعات، وطرق انتهالها للمعرفة الدينية، ويمكن أن أن نلخص ذلك في سببين:
الأول: نظرة تلك الجماعات لنفسها كحق مطلق لا يقبل الخطأ، وبالتالي فإن الآخرين ، وإن انتسبوا إلى الدين الإسلامي لا يحق لهم الإجتهاد المغاير، وإن حصل ذلك فإنهم يحتسبون من صنف الباطل.
الثاني: القراءة المجزوءة إلى النص الديني، المقطوع من حيثياته، وفهم القرآن الكريم من دون مرجعيات معصومة لتقوم بتسديد الفكر والنتائج، فتقطع آيات الجهاد عن سياقاتها، ليتداخل القتال مع الجهاد ويصبح مفهوماً رديفاً، بينما الجهاد مفهوم أعم من القتال، وهذا يعود سببه إلى افتقارهم المرجعية التي قال عنها الله تعالى: (ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، فأهل البيت (عليهم السلام) الذين قال عنهم الرسول أنهم لا يفترقون عن القرآن و عن الحق هم صمّام الأمان لأي فهم غير معصوم لنصوص القرآن الكريم، وإن نكرانهم (ع) يعد دخول في متاهات الإنحراف الفكري الذي يؤّدي إلى الإرهاب والتطرف ليتلبّس بلباس الدين.
هذا ما نلحظه في مجريات الساحة الإسلامية اليوم، ولا شك أن أثر ذلك سيعود على الدين نفسه بالدرجة الأولى، فينفر الناس من الدين لأن ذلك انحراف عن القاعدة التي أعطاها الله عز وجل لنبيه الكريم (ص) في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
س2: كيف نتمكن من احتواء حالات التطرف والإرهاب او استصاله جذريا؟
عندما نريد استأصالاً جذرياً لحالات التطرف والإرهاب، فهذا يعني أنه ينبغي علينا أن نتجه نحو الجذور لمعالجتها، و هذه المشكلة هي في الأساس مشكلة ثقافية وفكرية حيث تشكل عقل الإنسان بمجموعة من المفاهيم الخاطئة لتكوّن لديه أيديلوجيا، سيكون مستعداً للموت في سبيلها، لذلك فإن المعالجة الفكرية هي الأهم في مكافحة الإرهاب، إلا أن هذه الخطوة لا يمكن أن تكون مجرّدة من إصلاحات كثيرة مصاحبة لها، وهي إتاحة الحرية الفكرية في البلدان الإسلامية والسماح للتعدّد أن يأخذ مداه، وتأسيس منتديات الحوار والتداول الفكري، ودعم المؤسسات التثقيفية ومراكز البحث الفكري لتقوم بدورها بإقتدار، فنحن في الوطن العربي آخر ما نفكر فيه هو دعم المشاريع الثقافية بشكل عام، فإن الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين على سبيل المثال ينفق على البحث العلمي والتعليم أكثر مما تنفقه الدول العربية مجتمعة، وهذه مأساة حقيقية ينبغي الإلتفات إليها.
س3: ماهي علاقة المنظومة المعرفية العربية بانتشار التطرف والارهاب؟ وهل النظام المعرفي معبأ بالعنف، التطرف و الكراهية للآخر؟ وهل يشكل النظام المعرفي العربي عقبة أمام التطور نحو الإصلاح و الديمقراطية؟
عندما نقرأ المشهد المعرفي العربي، فإن ما يرتسم أمامنا هو حالة انفصال النخبة المثقفة عن المتبنيات المعرفية للسلطة، وكلا المنحيين يحاولان أن يشكلان رؤية للحياة، وإن ما يمكن أن يعطي مبرراً لحالات الإرهاب والتطرف هي متبنيات بعض الحكومات الداعمة لبعض المشاريع الإحادية التي تدّعي أنها الحق المطلق وغيرها هو الشر المطلق.
إن لدى الكثير من التيارات الفكرية في الوطن العربي والإسلامي أفكاراً وتطلعات نحو الإصلاح والديمقراطية، وهذه التيارات بمجموعها يمكن النظر إليها كنظام معرفي عام، من خلال جمع المساحات المشتركة بينها، وأبرز مسألة هي الإصلاح وإطلاق الحريات، إلا أن هذه التيارات نفسها مبتلاة بأمراض السلطة، فلا يوجد بداخلها الحريات اللازمة وهي مريضة بأمراض كالتعصّب و إلغاء الآخر، فمن غير الممكن أن تصل هذه الجهود إلى مطلب سائغ وهي مبتلاة بذات الداء، ففاقد الشيء لا يعطيه، ووجود الأدبيات المتناغمة مع الإصلاح والديمقراطية لا يعني شيئاً إذا كان خالياً من أي تمظهر خارجي في الفعل والأداء.
س4: هناك حركة إصلاح قوية يمر بها العالم، لاسيما العالمين العربي والإسلامي، تتمثل باندفاع الشعوب نحو الشوارع للقيام بعصيان مدني شامل يهدف إلى إسقاط الحكومات والقيام بالتغيير، برأيكم ما سبب هذا التحرك في هذه المرحلة؟.
ج: إن الأماني التي تروم التغيير والإصلاح موجودة في ذهنيات المجتمع العربي والإسلامي، ولكنها مكبوتة، وعامل الكبت إما أن يكون بفعل السلطات نفسها وطرق تدبيرها وتعاملها مع أي رأي مغاير لسياستها أو بسبب نوع الثقافة التبريرية التي تسكن عقول الناس، مما لا يساهم في خلق جو إئتلافي وتعاوني للمطالبة بالحقوق، وهذه المشكلة بحاجة إلى أن يكتشف الناس القيادات ذات الكفاءة، والمتصدّية بإخلاص لقضايا الأمة، لكي ينهضوا بعمل حقيقي في الميدان.
أمّا السبب وراء إرتفاع وتيرة المطالبات والمسيرات المطلبية هو الحصول على بعض المنافذ بفعل الضغط العالمي العام على الممارسات الديكتاتورية في الدول، وأخذها مأخذ الضمانات، بل بعضها أخذها مأخذ الرهان، وهذا خطأ فادح، فإلإنسان يمكنه أن يستفيد من المساحات المتاحة أي كان سببها، إلا أن ذلك لا يدعوه إلى التبني إلى حد المراهنة، هذا هو الفارق بين المنحيين.
س5: هل يمثل العصيان المدني اسلوبا حضاريا جديدا يكون بديلا عن العنف، وهل برأيك سوف يحقق اهداف التغيير؟
ج: العصيان المدني هو مفردة من مفردات العمل السياسي غير العنفي، ومع تواصل هذا الجهد وتنظيمه تنظيماً جيداً وإدراته بفاعلية، مع الإستمرار والحفاظ على السلوك الحضاري النابع من القيم الدينية التي تأمر بعدم الإعتداء وبالرفق من جهة، وتأمر بالثبات والصبر على الحق وإن طال السرى، من جهة أخرى، لا شك مع ملاحظة كل ذلك ستؤدّي إلى نتائج إيجابية، خصوصاً إذا رافق ذلك الحوار الجاد من الطرفين، وتبني أجندة واضحة في العمل نحو التغيير والإصلاح.
س6: نلاحظ إن العالم العربي و الإسلامي لا يتقبل عملية الإصلاح إلا بوجود ضغوط خارجية قوية، فما السبب في ذلك؟ و هل بالإمكان قيام الشعوب العربية الإسلامية بحركة الإصلاح دون التدخل الخارجي؟
ج: لا شك أن عملية الإصلاح ممكنة من الداخل، إلا أن شروطها صعبة، وقد أخذت الحركات الإصلاحية هذه الصعوبة مأخذ المستحيل وتعاملت معها على هذا الأساس، فمن هنا بدأ الاتكال على الضغوط الخارجية، ومنشأ الصعوبة هو ممارسات السلطات الديكتاتورية وطرق مقابلتها لأي إرادة تغييرية في الداخل، ولكن الله تعالى لا يترك عباده طويلاً من دون فسح مجالات للتحرّك ولو بتسليط ديكتاتور آخر من الخارج على دكتاتور الداخل، كما هو الحال في العراق حيث تم التغيير بشكل مباشر، وهذه الحالة سائدة الآن في أكثر من بلد وإن بصور أخرى.
وينبغي أن تعي الحكومات العربية والإسلامية بأن التغيير إذا تم من الداخل فهذا أصلح لها وأكثر مكنة، أما إذا جاء التغيير من الخارج فهو ذلة ومهانة، كما يقول الإمام علي (عليه السلام): (ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا).
س7: لماذا تتمركز حالات الاستبداد، الديكتاتورية، والمركزية المطلقة في العالم العربي والإسلامي؟ و لماذا تأخر كثيرا في ممارسة الديمقراطية؟
ج: لا تقتصر حالات الإستبداد والديكتاتورية على النظم العربية والإسلامية فحسب، بل هي شاملة حتى لبعض النظم الغربية، إلا أن الفارق بينهما هو أن النظم العربية استبدادها موجه نحو الداخل، أي إلى المواطنين، وااستبداد الغرب موجه نحو الخارج، أي نحو الأنظمة الأخرى والمجتمعات الأخرى، سواء كان استبداداً سياسياً أو اقتصادياً أو حتى ثقافياً، بأي نحو من أنحاء الإستبداد..
وكلا الإستبدادين يعملان على تشكيل عقلية عدائية داخل البلدان العربية إلى الغرب، لأن استبداد الحكومات العربية متجه نحو المواطن العربي والمسلم، والاستبداد الغربي متجه أيضاً نحو المواطن العربي وهو المتضرر الأول منه. ولا يمكن أن تكون إرادة تصدير الديمقراطية من قبل الغرب كما هو إدعاؤهم حقيقية، لأنها بقيت لسنين طويلة صديقة وحليفة لجميع الأنظمة الديكتاتورية في العالم على مبدأ المصلحة لا المبدأ، أما تأخر الإصلاح في الوطن العربي والإسلامي فلأنه لا يدعم مصالح الحاكم وحليف الحاكم.
س8: ما هي عناصر و شروط نجاح ممارسة الديمقراطية في العالمين العربي و الإسلامي؟
ج: من الملاحظ أنه غالباً ما تدّعي الحكومات قيامها بإصلاح واستعدادها لفتح أبواب الحرية اتجاهاً نحو العملية الديمقراطية، إلا أنها سرعان ما تتراجع عن ادعاءاتها، إذا وصل الأمر إلى الواقع العملي والتطبيقي، ولذلك فإن ثلاثة اتجاهات يمكن أن يكون لها دور في نجاح تلك الممارسة والحفاظ عليها، وذلك لا على سبيل الحصر:
الإتجاه الأول: الاصرار على التقنين لكل ما من شأنه المساهمة في المحافظة على الحريات، وعدم الإكتفاء بالوعود الشفوية.
الإتجاه الثاني: خلق حالة تواصل بين الحركة الإصلاحية في الداخل مع المنظمات والمؤسسات ذات العلاقة العالمية لتكون مساندة ومراقبة للعملية الديمقراطية.
الإتجاه الثالث: العمل على التثقيف الإجتماعي بالحركة الإصلاحية والعملية الديمقراطية والحريات والمسئوليات المناطة بالمجتمع، لكي يخلق وعي عام يصر على مطالبه ويحافظ عليها، ويعاود المطالبة بها إذا ما نكصت السلطات على عقبيها.
س9: هل ترغب في أن يكون الإصلاح من الداخل أو من الخارج، وماذا لو لم نتمكن من تحقيق الإصلاح من الداخل بسبب البطش والقمع الذي تمارسه الانظمة الاستبدادية؟. وفي رأيكم ما هي النتائج المترتبة على الإصلاح من الخارج؟
ج: لا شك أن الإصلاح القادم من الخارج خصوصاً إذا كان ذلك الخارج متمثلاً في المنظومة الغربية، لن يكون خيراً خالصاً، لما تتبناه تلك الدول من تطلّع سيادي، واقتصادي، وثقافي على العالم، لذلك فإنه من الصعب أن يكون ذلك خياراً يعبّر عن إرادة تغييرية نحو الإصلاح.
إلا أنه وكما ذكرنا، قد يأتي ذلك دون إرادة الشعوب، بل نتيجة صراع الرؤوس والمصالح، كما حدث في العراق مثلاً، وقد كان موقف الحركات الإسلامية والمرجعية الدينية خصوصاً حكيماً، حيث لم يتبنوا التغيير الخارجي، ولم يراهنوا عليه، برغم معاناتهم الكبيرة جداً مع النظام البائد، إلا أنهم في الوقت نفسه أعدّوا العدّة للإستفادة من التغييرات التي ستحصل، بل وساهموا في ترشيدها والضغط نحو تحقيق العدالة ولو جزئياً.
أمّا في بعض البلدان الإسلامية والعربية فلا يصل الأمر إلى ذلك الحد من الظلم الذي مارسه صدام، وقد حصلت بعض الإنفراجات كإستحقاقات الشعوب في بعضها كالبحرين مثلاً، وقد حصلت بعض الإنفراجات في دول أخرى بسبب الإحساس بعاصفة التغيير من الخارج كالمملكة العربية السعودية وغيرها.. وهذا يدعونا إلى تبني خيار التحرك السياسي والحقوقي من الداخل، مع التعاون مع المؤسسات العالمية ذات العلاقة، وليس الدول ذات المآرب والأطماع.
مقالات ذات صلة:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
- البصائر تنشر حوارا حول المذهب القيمي في التشريع مع المرجع المدرسي، بمشاركة السيد الموسوي - 2013/04/16
- لقاء مجلة الولاء مع السيد محمود الموسوي حول لإعلام الفضائي الحسيني - 2012/11/22
- السيد محمود الموسوي في حواره مع قناديل كربلاء.. يطرح معادلة متوازنة - 2012/11/17
- حوار مع السيد محمود الموسوي حول الحراك الجماهيري - 2011/11/13
- حوار مع السيد الموسوي: الحج وصياغة شخصية الإنسان - 2010/12/02
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 49028 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35948 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33870 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 32120 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28587 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20507 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 20032 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19916 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19848 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15917 مرُة