لقد ذكر بعض المحقّقين أن توصيف زهير بن القين الشهيد بكربلاء بصفة (العثماني) كانت في البدء في رواية الطبري التي نقلها في محاورة زهير مع جيش العدو، وقد وصفه المحاور بأنه كان عثمانياً، ثم أخذها عنه البلاذري في كتابه أنساب الأشراف، حيث قال: (وكان زهير بن القين البجلي بمكّة، وكان عثمانياً). 3/314

ومع أننا لا نرى ضيراً في أن يكون الإنسان مع جهة ثم يلتحق بالإمام الحسين (عليه السلام) إيماناً منه بإمامته، فإنه مثال لمن يخرج من الظُلمة إلى النور، ولا شك أن الهداية فضل من الله لما يراه من العبد من صدق النية وإخلاصها، فكيف إذا كان الانتقال إلى الركب الحسيني الطاهر، بحيث يخلّد اسمه في صحيفة شهداء الطف فيسلّم عليه المؤمنون في زيارتهم ويشهدون له بالفضل والمقام العظيم عند الله تعالى، ويتمنون الحشر معه في يوم القيامة، فإن هذا اللحوق لهو لحوق نوري عظيم لا يناله إلا ذو حظ عظيم قد علم الله منه حسن السريرة.

بالرغم من ذلك إلا أن بعض المحققين لم يرتض توصيف زهير بأنه كان عثمانياً، وأرجعوا ذلك إلى أن الخبر المنقول لا يحتوي على أسس المنقولات في تصنيف الأشخاص بالنظر للناقل، وبعض اعتبر ذلك صورياً للحفاظ على نفسه لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام) نظراً لقبوله السريع للنصرة بعدما فاتحه الإمام الحسين (عليه السلام)، وبعض اعتبر التوصيف حقيقياً إلا أنه لم يشترك في حرب ضد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهداه الله تعالى لحسن العاقبة.

ومهما كانت النتيجة، فإننا نؤكد على أن تقييم الرجال النهائي إنما يعتمد على حسن العاقبة أو سوئها، أما سيرته قبل الهداية، فإنها موضع تقييم، ولا يقيّم رجال الإسلام كما يقيّم الإمام المعصوم، أي لا يكون في ميزان التقييم أن تسقط الشخصية بأدنى خطأ أو التباس واشتباه منه، فإن ذلك مما لا يُقبل في المعصوم فيكون طاهراً مطهراً من كل رجس ونجس، أما غيرهم فقد تصيبهم سيئة أو مذمّة، وهم في ذلك درجات، فمنهم من عصم نفسه، ومنهم من خلط علماً صالحاً بعلم سيء، ومنهم من التبس عليه الأمر وشبه ذلك.

أما ما نراه في شأن زهير بحسب القراءة التحليلية لما عندنا من وثائق، فنقول:

إن التوصيف بأنه كان عثماني الهوى مقتبس من قصة محاورته في كربلاء، والتي على أساسها جرت على ألسن المؤرخين، فلذلك لابد أن نقف أولاً مع هذه الحادثة، وهي كما نقلها الطبري نفسه وهو أول من ذكر هذا التوصيف، رواية عن أبي مخنف، كالتالي:

بعد أن كلّم العباس القوم وكان معه مجموعة من الأنصار، منهم حبيب بن مظاهر وزهير بن القين، رجع قافلاً للمخيّم لينقل لللإمام الحسين (عليه السلام) ما جرى.. فبينما هو راجع ذكر النصّ:

"فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كلّم القوم ان شئت، وان شئت كلّمتهم فقال له زهير: أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلّمهم.

فقال له حبيب بن مظاهر: أما و اللّه لبئس القوم عند اللّه غدا قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيّه عليه السّلام و عترته و أهل بيته صلّى اللّه عليه [و آله‏] و سلّم و عبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار و الذاكرين اللّه كثيراً.

فقال له عزرة بن القيس‏: انك لتزكّي نفسك ما استطعت!

فقال له زهير: يا عزرة: ان اللّه قد زكّاها وهداها، فاتق اللّه- يا عزرة- فاني لك من الناصحين، انشدك اللّه يا عزرة- أن تكون ممن يعين الضّلال على قتل النفوس الزكية!

قال [عزرة بن قيس‏]: يا زهير! ما كنت- عندنا- من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنت‏ عثمانيا!

قال: افلست تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم! أما و اللّه ما كتبت إليه كتابا قط، و لا أرسلت إليه رسولا قط، و لا وعدته نصرتي قط، و لكنّ الطريق جمع بيني و بينه، فلما رأيته ذكرت به رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله‏] و سلّم و مكانه منه،

وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم فرأيت أن انصره وأن اكون في حزبه، وان أجعل نفسي دون نفسه، حفظا لما ضيّعتم من حقّ اللّه وحقّ رسوله عليه السّلام. (تاريخ الطبري، ج3، ص314، ووقعة الطف، ص195).

ونلاحظ في هذا النصّ عدة أمور:

1 – أن الإدعاء بأنه كان عثمانياً صدر من العدو، ولم يقرّ زهير لهم بذلك.

2 - لقد استفاد زهير من هذا الادعاء في المحاورة لخدمة مطلوبه فيها بأن عليهم أن يتركوا جبهة الباطل ويلتحقوا بجبهة الحق، وهو أمر ممكن، لذلك كان ردّه مع استدلالك هذا، وبالرغم من أنني لم أرسل له ولا وعدته كما وعدتموه وخذلتموه، فإني لما رأيته عرفت الحق والتحقت به، أي أنكم أحوج إلى الرجوع إليه مني لما طلبتم منه المجيء إليكم.

3 – لقد كان لدى زهير وضوحاً في المعتقد بما يخص الإمام الحسين (عليه السلام)، والذي عبّر عنه أنني لمّا رأيته (ذكرت به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانه منه) فهو تعبير عن إيمانه بأن الإمام الحسين (عليه السلام) إنما يذكّر برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن للإمام (عليه السلام) مكانة من النبي (صلى الله عليه وآله)، هذه المكانة ليست مكانة عادية، بل هي مكانة اقتضت أن يقدّم نفسه فداء له في قوله (أن أجعل نفسي دون نفسه)، فمكانة ترخص لها النفوس دون أن يكون الإمام على سدّة الحكم لكي لا يقال طاعة لحاكم أو استجابة لآمر جيش، فتلك مكانة نابعة من المعتقد الراسخ.

4 – ولقد أضاف لذلك الإيمان بأن ما يفعله من فداء إنما هو (حفظاً لما ضيّعتم من حق الله وحق رسوله)، وهو تأكيد من أن ذلك الشأن متصل بالله تعالى، فهو حق الله وحق رسوله الذي يجب أن يُمتثل.

فكان ذلك الإيمان الذي أسس عليه زهير موقفه لهو إيمان سابق كما ادعاه نفسه، ولذلك قام بتأسيس موقفه عليه، فلم يكن إيمانه بالإمام الحسين (عليه السلام) إيماناً حادثاً بل كان سابقاً وراسخاً.

والذي يؤيد ذلك عدة أمور يمكن قراءتها في مواقفه، ومنها:

أ – عند مخاطبته قومه بعد أن قرّر اللحوق بالإمام الحسين (عليه السلام) ذكر لهم وصية سلمان الفارسي بعد النصر في إحدى الحروب، بأنكم ستدركون شباب آل محمد فانصروه فستكونون أشد فرحاً من فرحكم بالغنائم. وقد نقل ذلك الخوارزمي في مقتله، وهذا نصّه:

قال الإمام أحمد بن أعثم: ثمّ مضى "الحسين" فلقيه "زهير بن القين"، فدعاه الحسين إلى نصرته فأجابه لذلك، وحمل إليه فسطاطه، وطلّق امرأته، وصرفها إلى أهلها، وقال لأصحابه: إني كنت غزوت "بلنجر" مع "سلمان الفارسي" فلما فتح علينا اشتدّ سرورنا بالفتح، فقال لنا سلمان: لقد فرحتم بما أفاء اللّه عليكم، قلنا: نعم، قال: فإذا أدركتم شباب آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه منكم بما أصبتم اليوم، فأنا أستودعكم اللّه تعالى، ثمّ ما زال مع الحسين حتّى قتل. ج1، ص323.

ب – يروي الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة، رواية زهير إلى العباس بن علي (عليه السلام) قصة انتخاب أمه أم البنين من أجل أن تنجب فارساً ينصر الإمام الحسين (عليه السلام)، ونقلها عبد الرزاق المقرّم في مقتله، تؤيد معرفته بأهل البيت (عليه السلام) معرفة تفصيلية.

ج – خطابات زهير بن القين في كربلاء تبيّن معرفة عميقة بحق أهل البيت (عليه السلام) جميعاً، حيث كان يذكر الإمام علي (عليه السلام) والحسن بن علي (عليه السلام) بالإضافة إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، منها ارتجازه ببيت الشعر (أذودكم بالسيف عن حسين  إن حسيناً أحد السبطين.. ابن علي طاهر الجدّين  من عترت البر التقي الزين).وغيرها من المواقف التي تبيّن رباطة الجأش وبذل المجهود في نصح الأعداء وفي نصرة الإمام (عليه السلام).

أما ما يُنقل من أن زهيراً كان يتحاشى لقاء الإمام الحسين (عليه السلام) أو أنه رفض في بادئ الأمر لقاءه، فهي مجرّد توصيفات لبعض الرواة، ولم يذكرها بعض الرواة، ولعلها كانت لحظات تخيير النفس ما قبل القرار الأخير، أو رهبة مما يعلم أنه ملاقيه عند لقاء الإمام (عليه السلام) مما كان يعرفه من سلمان الفارسي، أو قد يكون ذلك تظاهراً أمام قومه لتأمين لقاء سهل مع الإمام، وإننا نجد أن الروايات ذكرت أنه بعد مخاطبة الإمام له (ما لبث أن جاء مستبشراً مشرقاً وجهه).

أما توصيفه بأنه (عثماني) من قِبل العدو، فقد تبيّن أنه لم يقرّ به، ولكن قد يكون لذلك تفسيراً، فما أكثر الاتهامات والاشتباهات في التاريخ التي لم تكن دقيقة، فنرى بعض المؤرخين مثلاً كالواقدي، من يصفه بأنه (يتشيّع)، ومن يصفه بأن (عثماني الهوى)، فلا يسلم الأمر من الاجتهاد الذي قد لا يكون دقيقاً، فقد قيل أن العثماني هو الذي كان يفضّل عثمان على أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، أو شارك في حرب ضد الإمام، أو كان يبغضه، وكل هذه الدرجات منفية بالقطع عن زهير بن القين.

نعم، ربما يكون التوصيف إن صحّ، بسبب الاشتباه، فلكونه كان شجاعاً مشاركاً في بعض الفتوحات، فإن البعض حسبه على الطرف الحاكم آنذاك، وإننا نعلم أن تلك الحروب قد شارك فيها العديد من الفرسان ممن لا ولاء لهم، بل كانت دوافعهم متعددة في المشاركة، فمن غير الصحيح القطع بالولاء لمجرد المشاركة في حرب أو حربين.

بل لم نجد في أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) ممن كان موالياً لأعداء الله مبغضاً لأهل البيت (عليهم السلام)، فعلى أكثر تقدير كان عاملاً معهم مشتبهاً ولكنه كان محباً لأهل البيت (عليهم السلام) كالحرّ الرياحي، أو كان على دين آخر ولكن لم تتلوّث نفسه ببغض أهل البيت (عليهم السلام)، فخاتمة الخير ومنقلب الفضل العظيم بحيث يكون من أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) دال على طينة خير وحسن سريرة.

أما ما شطّ فيه البعض ممن لمّح إلى أن زهير كان متّبعاً هواه ولاهياً، فهذا مما لا ينبغي الوقوف عنده، فهو اشتباه بسبب اعمتاده كلمة (الهوى)، ظاناً أنها تشير إلى اللهو، ولكنها تشير إلى الاتجاه السياسي عادة، وقد استبعدناها، وقد نُقل عنه أنه كان شريفاً في قومه شجاعاً عارفاً بفضل أهل البيت (عليهم السلام).

السيد محمود الموسوي

محرم الحرام 1444هـ

من مؤلفاتنا