بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجعين، محمد وآله الطاهرين.

في شأن مقولة (حب الحسين أجنني) التي تنقل على لسان شهيد الطف عابس بن شبيب، لقد بحثنا في الكثير من كتب المقاتل، القديمة، ولم نجد لها أثراً إلا في كتاب أدب الطف للسيد جواد شبر، وهو كتاب حديث، قال ما نصّه:

"قال أرباب المقاتل: "ثم مضى بالسيف أي عابس -مصلتا نحو القوم وبه ضربة على جبينه من يوم صفين فطلب البراز، قال ربيع بن تميم لما رأيته مقبلا عرفته وكنت قد شاهدته في المغازي والحروب، فقلت: أيها الناس هذا أسد الأسود، هذا ابن شبيب لا يخرجنّ اليه أحد منكم فأخذ عابس ينادي: ألا رجل. فلم يتقدم إليه أحد، فنادى عمر بن سعد: ويلكم ارضخوه بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، فنودي: أجننت يا عابس؟ قال: حب الحسين أجنني:

يلقى الرماح الشاجرات بنحره * ويقيم هامته مقام المغفر

ما إن يريد إذا الرماح شجرنه * درعا سوى سربال طيب العنصر

ثم شدّ على الناس فو اللّه لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من عسكر ابن سعد، ثم أنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقتلوه واحتزوا رأسه، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة هذا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول أنا قتلته، فأتوا عمر بن سعد، فقال لا تختصموا هذا لم يقتله إنسان واحد، كلكم قتلتموه.

ففرق بينهم بهذا القول". أدب الطف، سيد جواد شبر، ج8، ص 172.

أما ما هو مدوّن في المقاتل فهي عبارة:"فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شدّ على الناس.."، وتكاد تتفق عليها المصادر، وتوضح هذه العبارة أن عابس بن شبيب كانت له ميزة عند تقدّمه للقتال بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام)، عندما شاهد الأعداء يهابون الاقتراب منه للبراز، قام بإلقاء درعه ومغفرته التي تقيه من السهام والضربات ليكون كالفريسة السهلة بالنسبة للأعداء، وهذا ما أغراهم في التقدّم لقتاله، فقاتل مثل غيره من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، وقتل جمعاً، ثم قُتل.

ولقد رفض المقولة المنقولة عن لسان عابس (حب الحسين أجنني) عدد من العلماء، بسبب عدم ورودها في المقاتل من جهة، وبسبب تنافيها مع دعوة الدين إلى العقل والتعقّل، فبحسب ما فهموه أن هذه المقولة لا تناسب أحد أبطال الطف الكرام.

إلا أننا يمكن أن نفهم المقولة مع احتمال صدورها أو حتى مع عدم صدروها، واعتبارها من مقولات لسان الحال، بفهم يصحح القصد منها، ولا ينافي ما جاء به الدين من التحلّي بالعقل والتعقل.

على الخصوص أن هذه المقولة اشتهرت بين الأعلام والفقهاء منذ القدم، وكانوا يسوقونها لبيان مدى تفاني عابس بن شبيب في حب الإمام الحسين (عليه السلام) واستماتته في القتال دون حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد دوّنها كتاب (أدب الطف) ولعله أخذها من مصدر كان بين يديه.

فيمكن بسهولة فهم العبارة بشكل لا ينافي دعاوى الدين ولا يقلل من شخصية عابس، وذلك من عدة وجوه:

منها: أن هذه الشجاعة والجرأة التي أقدم عليها عابس، تبدو للآخرين جنوناً، فمن لا يعرف ما يفعل حب الحسين (عليه السلام) وماذا يعني الولاء له، يسمي ما أقدم عليه عابس جنوناً، وهو غاية العقل والتسليم والاستماتة في الحق، فقوله (حب الحسين أجنني) أي دعاني ذلك الحب إلى ما تسمونه جنوناً.

ومنها: أن هذا تشبيه، وهو أيسر الأمور، والتشبيه مجازي ليس على نحو الحقيقة، أي يشبه فعل المجنون، والتشبيه بحيث يكون هناك صفة مشتركة بين الأمرين من أي جهة من الجهات ولو كانت شكلية، وقد عرف العرب أن الاستماتة في القتال وعدم الاكتراث يشبهونه بالمجنون وهو ليس كذلك، أي يقوم بأفعال إذا رآها غيره يراها جنوناً وهي ليست كذلك.

لقد جاء في المحيط في اللغة: واسْتَمَاتَ‏ قيل: هو الذي يَتَجَانُّ وليس‏ بمَجْنُوْنٍ‏. والمُسْتَقْتِلُ في الحَرْبِ.

وفي لسان العرب: واسْتَماتَ‏ الرجلُ إِذا طابَ نَفْساً بالموت. والمُسْتَمِيتُ‏: الذي يَتَجانُّ و ليس بمَجْنون‏.

فإن عابس بين شبيب لمّا استمات في القتال بالصورة التي أجمعت عليها كتب المقاتل حيث رمى درعه وألقى مغفره، يمكن أن يشبّه بالجنون وهو غاية العقل، ولا بأس في ذلك.

وقد شبّه شعراء العرب عن حالات تصيبهم، بالجنون كناية عن حالات الحب العميق واشتغال التفكير في المحبوب،

قال الشاعر فيما نقله الشيخ البهائي ونقله المجلسي في البحار:

جنوني‏فيك لا يخفى‏   وناري منك لا تخبو
فأنت السمع والأبصار   والأركان والقلب‏
     

وقال بن منظور قال الشاعر:

هَبَّتْ له رِيحٌ‏فجُنَ‏جُنونَه‏،   لمَّا أَتاه نَسِيمُها يَتَوَجَّس‏

وفي بيت الشعر

طالَ لَيْلِي وبِتُّكالمَجْنُونِ‏،   واعْتَرَتْنِي الهُمُومُ بالماطِرُون‏

ومن جميل ما قيل في حب الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا الصدد، رائعة الشاعر المعاصر جاسم الصحيح، تحت عنوان (حملت جنازة عقلي معي)، يقول فيها:

حملـتُ جنـازةَ عقلـي معـي

وجِئْتُـكَ فـي عاشـقٍ لا يعـي

أحسُّـكَ ميـزانَ مـا أدَّعـيـهِ

إذا كـان فـي الله مـا أدَّعـي

أقيـسُ بِحُبِّـكَ حجـمَ اليقـيـنِ

فحُبُّـكَ فيمـا أرى مرجـعـي

خلعتُ الأساطيـرَ عنِّـي

سـوى أساطيـرِ عشقِـكَ لـم أخـلـعِ

وغصتُ بِجرحكَ حيث الشموسُ

تهـرولُ فـي ذلـك المطـلـعِ

وحيث (المثلَّثُ) شـقَّ الطريـقَ

أمامـي إلـى العالَـمِ الأرفـعِ

وعلَّمَنـي أن عشـقَ (الحسيـنِ)

انكشافٌ علـى شفـرةِ المبضـعِ

فعَرَّيْتُ روحي أمـام السيـوفِ

التـي التَهَمَتْـكَ ولـم تشـبـعِ

وآمنتُ بالعشـقِ نبـعَ الجنـونِ

فقد بَـرِئَ العشـقُ مِمَّـنْ يَعـي

وجئتُكَ فـي نشـوةِ اللاَّعقـولِ

أجـرُّ جنـازةَ عقلـي مـعـي!

هذا، وهنالك وجوه أخرى، منها أخلاقي، ومنها معارفي، لا مجال لذكرها، فلم أر من داع للتعصّب في رفض مقولة (حب الحسين أجنني) من ناحية المعنى مادام لها جهات يمكن فهمها فهماً صحيحاً، وهكذا فهمها الكثير من العلماء والفقهاء الذين تناقلوها جيلاً بعد جيل.

ولا يعني كل ما ذكرناه أنه يسوغ لنا كموالين للإمام الحسين (عليه السلام) أن نتجاوز حدود الشريعة ونور العقل وبصيرة الحكمة في تصرفاتنا. ونسأل الله التوفيق والسداد.

السيد محمود الموسوي

من مؤلفاتنا