بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على رسول الله وآله الأخيار، وبعد،

في الجواب على ذلك، لابد من بيان نقاط في غاية من الأهمية، وهي لا تقتصر على الاعتقاد بوجود رواية من عدمها، لما في ذلك من جوانب ينبغي إدراكها والتأكيد عليها، ونذكر هذه البيانات في نقاط:

أولاً: بخصوص الرواية المشار إليها، لم ترد في ما بيدنا من الكتب الحديثية المعتمدة والمشهورة، ولكن آية الله الشيخ حبيب الله الكاشاني، (1262م 1846م) في كتابه الشهير (تذكرة الشهداء، مقتل الإمام الحسين (عليه السلام))، قد ذكر رواية مفادها أن ملك الموت توسّل إلى الله أن يعفيه من أخذ روح الإمام الحسين (عليه السلام) عند مقتله الشريف، ثم أن الله تعالى تولّى قبض روح الإمام بيد قدرته، بعد أن بيّن أن الطلب من ملك الموت لم يكن إلا ليباهي الله تعالى به الملائكة. وقد أقرّ الشيخ الكاشاني في بداية ذكره للرواية بضعفها، حيث قال: (وفي بعض الأحاديث الضعيفة عن الصادق (عليه السلام)..). ذكرها في المجلس الحادي عشر، في الصفحة 413، تحت عنوان (الله يتولّى قبض روح الحسين (عليه السلام).

ثانياً: فبعض العلماء لا يرى للخبر الضيف أي حجة، فلا يأخذ به ولا يرتّب عليه أثراً، إلا أن الكثير من أعلام الطائفة ومحققيها على مبنى أن الخبر الضعيف والمرسل يبقى في دائرة احتمال الصدور، بحسب مراتب القرائن قوة وضعفاً، فيمكن أن يقوّى الخبر الضعيف بحسب ما يساق له من قرائن تقويه، وإن لم تكن فيبقى على حاله دون رميه بالوضع، لأن الوضع يحتاج إلى دليل أيضاً، وإنما يبقى في دائرة الاحتمال الواسعة دون ترتيب الأثر، حتى لو لم يوجد في الكتب المعتبرة المشهورة، لأن الكثير من الكتب قد ضاعت وأبيدت فيمكن أن يكون بعضها من المحفوظات أو من المنقول عن الكتب المندثرة.

ثالثاً: من جهة أخرى لابد من البحث عن جهة الدلالة في الرواية المذكورة، فهل مفادها مناف للأصول الاعتقادية والشرعية أم لا؟

وهنا نأتي لدلالات الرواية في نقاط:

أ - حول قبض روح الإمام الحسين (عليه السلام)، فإن مفاد رواية أخرى جاءت في كتاب كامل الزيارات (وهو من أصح كتبنا وأكثرها اعتباراً)، وفي رواية شهيرة، أن الله تعالى هو الذي تولّى قبض روح الإمام الحسين (عليه السلام) وأرواح الشهداء بيده، وفيها دلالة واضحة على هذا المعنى، فمن جهة الدلالة، فإن هذه الرواية متوافقة مع الرواية التي ذكرها في كتاب (تذكرة الشهداء).

   والرواية المشار إليها هي ما رواه ابن قولويه عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في حديثه مع زائدة أحد زوار الإمام الحسين(عليه السلام)، في رواية طويلة، ذكر الإمام : فَلَأُخْبِرَنَّكَ بِخَبَرٍ كَانَ عِنْدِي فِي النُّخَبِ الْمَخْزُونِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَصَابَنَا بِالطَّفِّ مَا أَصَابَنَا وَ قُتِلَ أَبِي (عليه السلام) وَقُتِلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ وُلْدِهِ وَإِخْوَتِهِ وَسَائِرِ أَهْلِهِ وَحُمِلَتْ حَرَمُهُ وَنِسَاؤُهُ عَلَى الْأَقْتَابِ يُرَادُ بِنَا الْكُوفَةُ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ صَرْعَى وَلَمْ يوُارَوْا فَعَظُمَ ذَلِكَ فِي صَدْرِي وَاشْتَدَّ لِمَا أَرَى مِنْهُمْ قَلَقِي فَكَادَتْ نَفْسِي تَخْرُجُ. وَتَبَيَّنَتْ ذَلِكَ مِنِّي عَمَّتِي زَيْنَبُ الْكُبْرَى بِنْتُ عَلِيٍّ (عليها السلام)، فَقَالَتْ: مَا لِي أَرَاكَ تَجُودُ بِنَفْسِكَ يَا بَقِيَّةَ جَدِّي وَأَبِي وَإِخْوَتِي؟ فَقُلْتُ: وَكَيْفَ لَا أَجْزَعُ وَأَهْلَعُ، وَقَدْ أَرَى سَيِّدِي وَإِخْوَتِي وَعُمُومَتِي وَوُلْدَ عَمِّي وَأَهْلِي مُصْرَعِينَ بِدِمَائِهِمْ مُرَمَّلِينَ بِالْعَرَاء..

إلى أن ذكر الإمام خبر السيدة زينب (عليها السلام) تنقل حديث الميثاق عن النبي (صلى الله عليه وآله) ومنه: َ يَنْصِبُونَ لِهَذَا الطَّفِّ عَلَماً لِقَبْرِ أَبِيكَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ لَا يَدْرُسُ أَثَرُهُ وَلَا يَعْفُو رَسْمُهُ عَلَى كُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَلَيَجْتَهِدَنَّ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَأَشْيَاعُ الضَّلَالَةِ فِي مَحْوِهِ وَتَطْمِيسِهِ فَلَا يَزْدَادُ أَثَرُهُ إِلَّا ظُهُوراً وَأَمْرُهُ إِلَّا عُلُوّا..

إلى أن ذكرت كلام رسول الله (ص) في خبر قتل الإمام الحسين (ع) وأصحابه، حيث قال: َ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَضِجُ‏ كُلُ‏ شَيْ‏ءٍ فِي‏ السَّمَاوَاتِ‏ وَالْأَرَضِينَ بِلَعْنِ مَنْ ظَلَمَ عِتْرَتَكَ وَاسْتَحَلَّ حُرْمَتَكَ، فَإِذَا بَرَزَتْ تِلْكَ الْعِصَابَةُ إِلَى مَضَاجِعِهَا تَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْضَ أَرْوَاحِهَا بِيَدِهِ وَ هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مَعَهُمْ آنِيَةٌ مِنَ الْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ مَمْلُوَّةً مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ وَحُلَلٌ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ وَطِيبٌ مِنْ طِيبِ الْجَنَّةِ فَغَسَّلُوا جُثَثَهُمْ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَ أَلْبَسُوهَا الْحُلَلَ وَحَنَّطُوهَا بِذَلِكَ الطِّيبِ وَصَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ صَفّاً صَفّاً عَلَيْهِم‏.. إلى آخر الحديث. كامل الزيارات، ص264.

       ففي هذه الرواية تأكيد على أنه (تولّى الله عز وجل قبض أرواحها بيده) أي أرواح الشهداء جميعاً.

ب - فيما جاء من اعتذار ملك الموت عن قبض روح الإمام الحسين (عليه السلام) وهو من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، فكيف ذلك؟

     نقول: ظاهر الرواية المذكورة أن ملك الموت قد توسّل بالله بأن يأذن له بأن لا يقبض روح الإمام لما رأى من عظيم الرزية، وأن اعتذاره يعني سوقه لأعذار يمكن أن يقبلها الله تعالى، ولم يكن ملك الموت بذلك عاصياً أو ممتنعاً، بل وأن الرواية المشار إليها ذكرت أن طلب الله تعالى لملك الموت لم يكن طلباً حقيقياً وإنما لإظهار الحقائق ليباهي الله بالحسين (عليه السلام) أمام الملائكة، كما في مصدرها: (مه، أني ما أمرتك بذلك لكي تتولّى أنت قبض روحه، وإنما أردت أن أباهي به الملائكة، وأني أنا الله لا إله إلا أنا أتولّى قبض روحه بيدي قدرتي، ثم جاء في النداء من بطنان العرش: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً). (تذكرة الشهداء، ص413).

       ولا يخفى أن حوار الملائكة مع الله تعالى فيما يجهلون وما لا يقدرون أمر ليس غريباً، ولكنهم في النهاية يطيعون ويأتمرون بعدما يعلمهم الله تعالى، وهذا نظير ما ورد في القرآن الكريم، من استفهام الملائكة عن استخلاف آدام، في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة 30).

ج- لقد دلّت الروايات أن الله تعالى أوكل ملك الموت بقبض جميع الأرواح عند موتها، فهل هذا يعارض أن الله تعالى يتولّى قبض روح من الأرواح عن غير طريق ملك الموت؟

نقول: صحيح أن ملك الموت هو الموكل بقبض الأرواح، ولكن لا على نحو الحصر، بل هذا من العام الذي يمكن أن يخصّص ويقبل الاستثناء، ونحن أمام فعل الله تعالى وقدرته المطلقة، هو القادر على فعل ما يشاء كيف يشاء، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، ولو حصرنا قبض الأرواح بيد ملك الموت دون إمكان التغيير، لحدّدنا قدرة الله، وجعلناه محتاجاً لمخلوقاته، وهذا مخالف لأصول الإيمان بالله عز وجل.

د إن ملك الموت قبض روح النبي (صلى الله عليه وآله) وهو أعلى شأناً من الإمام الحسين (عليه السلام)، فكيف يمكن قبول ذلك؟

     وفي هذا الصدد نقول: إن مسألة قبض الله تعالى لروح الإمام الحسين (عليه السلام) دلت عليه الرواية المشار إليها في كتاب كامل الزيارات، ولذلك فينبغي أن نفهمها من باب أنها من (خصائص) الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا باب واسع ومهم من أبواب المعارف، ولكن ملخّصه أن كل معصوم له خصائص، وله درجة فضل عامة، فإن الإمام الحسين (عليه السلام) قال:أخي خير مني (ويقصد الإمام الحسن (عليه السلام)، ولكن الله تعالى جعل الأئمة من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام)، فهذه خصيصة، فلا تخالف أصل الأفضلية التي ذكرها الإمام الحسين(عليه السلام). ولا يعني ذلك أن الإمام الحسن ليس له خصائص، بل إن فتشت ستجد الكثير. وهكذا مع النبي (صلى الله عليه وآله)، فصحيح أن ملك الموت قد تولّى قبض روح النبي (صلى الله عليه آله)، ولكن النبي له خصائص لا تعدّ، ومنها أن ملك الموت استأذن الدخول عليه، وهو لم يستأذن على أحد قبله ولا يستأذن أحداً بعده، ومنها أن الله أمر ملك الموت أن يطيع النبي (صلى الله عليه وآله) في أن يقبضه أو لا يقبضه، فترك الله أمر موت النبي بيد النبي نفسه، وهناك الكثير من الخصائص، والخصائص مجملاً أبواب رحمة للعباد، وجهات جزاء للمعصوم.

وفي الختام، إنه يمكن عدم قبول الرواية المذكورة من جهة المبنى الصدور، وأما من جهة مفاد الرواية ودلالاتها، فهي متوافقة مع سائر الروايات، وليس فيها مضامين مخالفة للدين بحسب ما بيّناه، والله أعلم.

السيد محمود الموسوي

من مؤلفاتنا