هل من تعارض في ذكر الله بين الإطمئنان والوجل؟

 

الإجابة

بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..

بارك الله بكم، وأشكر حسن ظنكم..

أدوّن هنا ما جاد به التدبّر في الآيات حول ما سألتم وأسأل الله السداد..

يمكن النظر للمسألة من جهتين، ويمكن تصحيحهما جميعاً، لكونهما تصدق إحداهما الأخرى ولا تتناقض معها، وهو ما يمكن أن يطلق عليه ببُعد البطون.

الجهة الأولى: اختلاف جهة النظر (الاطمئنان) لشؤون الدنيا، و(الوجل) لشؤون الآخرة.

وبيانه:

أولاً: الاطمئنان.

إن الاطمئنان هو النظر لحال المؤمن في شؤون الدنيا، سواء كانت (ناظرة للأمن الغذائي، أو السياسي، أو الفكري) وما شابه ذلك مما يقلق الإنسان عادة، والمؤمن هو الذي يؤمن أن الله تعالى بيده كل شيء، فيصل إلى (الصبر) أو (الرضا). وكذا (السعي) و (الشكر). وقد قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}. (سورة قريش 3 - 4)

الجهة المقابلة هم الذين لا يؤمنون بالله، فإنهم إما أن يصبهم الاضطراب كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ}. (سورة المعارج 19 - 22)

وإما أن يطمئنوا إلى الدنيا اطمئنان كفاية بها دون النظر لله والآخرة، كما في قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}. (سورة يونس 7)

وهناك من هو موكل اطمئنانه إلى حاله الدنيوي إذا أصبح ذا نعمة موفورة ظاهرية، مع أنه من المؤمنين، وهذا خلل في الإيمان، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. (سورة الحج 11)

وإذا تتبعنا مزيداً من الآيات، سنجد أن الله تعالى قد عزّز المسلمين في الحرب بخمسة آلاف من الملائكة من أجل (الاطمئنان) بالنصر (العسكري، السياسي) وهو أمر دنيوي، وذلك في قوله تعالى:

{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. (سورة آل عمران 124 - 126)

والحواريون مع نبي الله عيسى فهم يطلبون مائدة من السماء كي (تطمئن) قلوبهم ب (إيمانهم وتصديقهم)، وهو أمر فكري دنيوي، كما في قول الله عز شأنه:

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}. (سورة المائدة 112 - 113)

وكذلك في قول إبراهيم (ع): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. (سورة البقرة 260)

فسواء طلب إبراهيم الازدياد في الإيمان لنفسه أو هو طلب للناس، فإن الحقيقة في هذه الآية أن الإيمان السليم والعقيدة الصحيحة واليقين بها، مدعاة للاطمئنان الفكري.

ومن هنا نأتي للآية التي تقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

فإن السياق الذي جاءت فيه هذه الآية هو سياق تشكيك الكافرين في نبوة النبي (ص)، في قوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). فيأتي اطمئنان المؤمنين بذكر الله تعالى لما جعلهم مؤمنين به وبرسوله الكريم (ص).

ثانياً: الوجل.

إن الوجل هو حال المؤمن عندما ينظر إلى بُعد الآخرة، فهو يعيش حالة الخوف كي يكون في طريق الطاعة وتحقيق ما يريد الله منه.

وهكذا كل نعمة تأتيه أو مسؤولية تُلقى عليه، فهو ينظر إلى الله خوفاً أي متحرّ رضا الله تعالى في ذلك، فنجد مثلاً في قوله تعالى:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }. (سورة الأَنْفال 1 - 4)

فسياق الآيات سياق إلقاء مسؤوليات وبيان أحكام ينبغي أن يتقي المؤمن فيها ربّه، فهو يتعامل معها خوفاً من نار الله وسخطه، وهذا ما يدعوه إلى الاستقامة.

وكذلك الحال في قول الله تعالى:

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. (سورة الحج 34 - 35)

وقد بيّنت الآيات في سورة المؤمنون أن استقامة المؤمن ووجل قلبه إنما هي بسبب أنه ينظر إلى الآخرة (أنهم إلى ربهم راجعون). وهذه الحقيقة نجدها في قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}. (سورة المؤمنون 57 - 60)

وكما قال أمير المؤمنين (ع): (طُوْبَى لِمَنِ اسْتَشْعَرَ الوَجَلَ، وَكَذَّبَ الأَمَلَ، وَتَجَنَّبَ الزَّلَل‏).

الجهة الثانية:

يمكن النظر للاطمئنان أنه حاصل بسبب الوجل، فالوجل الباعث والمحرك للمؤمن، والإطمئنان هي غاية يصل إليها.

وهذا يُعرف من خلال الآية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

فقلوب المؤمنين تكون وجلة عند ذكر الله تعالى، ذلك الوجل الذي يؤدي بها إلى الإستقامة وطلب الرضا، ثم أنهم (إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً)، وزيادة الإيمان هي زيادة اطمئنان.

وقد ذكر هذا الوجه سماحة المرجع الديني السيد المدرسي في تفسيره (من هدى القرآن)، حيث أشار إلى أن أصل (الوجل) هو التحرّك والاهتزاز، فقلوب المؤمنين تتأثر عندما تسمع آيات الله فتصل إلى الزيادة في الإيمان والاطمئنان.

وأنقل هنا كلمة شارحة لسماحة السيد المدرسي للآية، يقول:

(المؤمنون هم الذين إذا ذكر الله وجلت‏ قلوبهم‏ واهتزت خوفاً وطمعاً ومحبة، وازداد إيمانهم كلما ذكرت لهم آيات الله الناطقة وغيرها، ولم يشعروا بضِعة أمام شي‏ء أو شخص، لأنهم يتوكلون على الله ربهم ومدبر أمورهم، وينعكس هذا الإيمان القلبي الراسخ على سلوكهم، فإذا هم يقيمون الصلاة، وينفقون من كل ما رزقهم الله).

وختاماً:

لا يخفى أن لكل وجه دلائله التي لا تتناقض مع الآخر، ولكل منها يمكن أن يستفاد من الروايات، والله أعلم.

وتقبلوا تحياتي

محمود الموسوي

من مؤلفاتنا