هل المقولة صحيحة؟ لا تقولوا وداعاً شهر رمضان؟

بسم الله الرحمن الرحيم

المقولة المذكورة تحتوي على مغالطة، وهي النهي عن الوداع باعتباره مناقضاً للدعاء، وهذا غير دقيق، وهي أجنبية عن ثقافة أهل البيت (ع)، فإن الوداع هو الترك، ويقال للمسافر ودّع أهله إذا حانت لحظة الافتراق، وأصلها بحسب أقوال اللغويين، أنهم يودّعونه تفاؤلاً بالدعة التي يأمل أن يكون عليها أو يكونوا عليها عند الافتراق.

ومن ذلك نعلم أن الوداع ليست كلمة سلبية، إنما هي تشير إلى لحظة من اللحظات التي يفترق عندها الأطراف المتعدّدة، وفيها جانب التفاؤل الذي يأمله الأطراف.

ووداع شهر رمضان، هي مقولة جاءت في الروايات الشريفة عن النبي (ص) وعن أهل بيته الطاهرين (ع)، لتعرّفنا بمضمون تلك اللحظات التي نفارق فيها شهر رمضان المبارك بعد أن تصرّمت أيامه ولياليه، فنحن أمام شهر الله، نقف أمام إحدى النعم الإلهية العظيمة علينا، ولا ينبغي أن تمر لحظات الافتراق كأي لحظة عادية، ولذلك جاء الروايات لتشير إلى أن الإنسان المؤمن ينبغي له أن يودّع شهر رمضان بالمعرفة والبصيرة التي أتحفنا أهل البيت (عليهم السلام) بمضامينها في الأدعية والروايات الواردة عنهم.

فقد جاء في فضائل الأشهر الثلاثة: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا بَصُرَ بِي قَالَ لِي: يَا جَابِرُ هَذَا آخِرُ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَوَدِّعْهُ وَقُلِ...).

وحول بعض المضامين العامة للوداع جاء في دعاء الصحيفة السجادية في وداع شهر رمضان المبارك، عن الإمام زين العابدين (ع): فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا، وَلَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّةُ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ...

فمن خلال قراءة مجمل الروايات الواردة عن أهل البيت (ع)، نجد أن وداع شهر رمضان يتضمّن عدة غايات من شأنها تصحيح العلاقة بين الإنسان المؤمن وبين شهر رمضان الكريم، وهو في حال انصرافه وافتراقه عنه، ومنها أن الوداع يحتوي على عدّة وقفات:

1 - وقفة تدارك. وهي اللحظة التي يراجع الإنسان فيها نفسه ويسعى لتعويض ما فاته من خير الشهر الفضيل.

2 - وقفة شكر. وهي اللحظة التي يذكر فيها الإنسان عظمة النعمة وسعتها التي نالته في هذا الشهر الكريم.

3 - وقفة حفظ. وهي اللحظة التي يقرّر فها العبد أنه سيحمل بركات شهر رمضان وعوائده الذاتية معه إلى سائر الشهور.

4 - وقفة رجاء. وهي اللحظة التي يتطلّع ويدعو فيها الله تعالى أن يبلّغه نعمة شهر رمضان المبارك في الأعوام المقبلة.

وكل هذه المضامين وغيرها، نجدها في الأدعية الواردة في وداع شهر رمضان المبارك، منها ما هو مروي عن الإمام الصادق (ع) ومنها الدعاء المذكور في الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (ع).

فعلى سبيل المثال: عن التدارك: في الكافي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع)‏ فِي وَدَاعِ‏ شَهْرِ رَمَضَانَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ الْمُنْزَلِ (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)‏ وَهَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَقَدْ تَصَرَّمَ، فَأَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ، إِنْ كَانَ بَقِيَ عَلَيَّ ذَنْبٌ لَمْ تَغْفِرْهُ لِي أَوْ تُرِيدُ أَنْ تُعَذِّبَنِي عَلَيْهِ أَوْ تُقَايِسَنِي بِهِ أَنْ يَطْلُعَ‏ فَجْرُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَوْ يَتَصَرَّمَ هَذَا الشَّهْرُ إِلَّا وَقَدْ غَفَرْتَهُ لِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين‏.

وعن الشكر: في نفس الدعاء: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ بِمَحَامِدِكَ كُلِّهَا عَلَى نَعْمَائِكَ كُلِّهَا أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا مَا قُلْتَ لِنَفْسِكَ مِنْهَا وَمَا قَالَهُ الْخَلَائِقُ الْحَامِدُونَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي ذِكْرِكَ وَالشُّكْرِ لَكَ‏ - إلى قوله - عَلَى أَنَّكَ بَلَّغْتَنَا شَهْرَ رَمَضَانَ وَعَلَيْنَا مِنْ نِعَمِكَ وَعِنْدَنَا مِنْ قَسْمِكَ وَإِحْسَانِكَ وَتَظَاهُرِ امْتِنَانِكَ مَا لَا نُحْصِيهِ، فَلَكَ الْحَمْدُ الْخَالِدُ الدَّائِمُ الزَّائِدُ الْمُخَلَّدُ السَّرْمَدُ الَّذِي لَا يَنْفَدُ طُولَ الْأَبَدِ، جَلَّ ثَنَاؤُكَ أَعَنْتَنَا عَلَيْهِ حَتَّى قَضَيْتَ عَنَّا صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ مِنْ صَلَاةٍ فَمَا كَانَ مِنَّا فِيهِ مِنْ بِرٍّ أَوْ شُكْرٍ أَوْ ذِكْر.

وعن الرجاء:  لَا تَجْعَلْ هَذَا الْوَدَاعَ مِنِّي لَهُ وَدَاعَ فَنَاءٍ، وَلَا آخِرَ الْعَهْدِ مِنِّي لِلِّقَاءِ حَتَّى تُرِيَنِيهِ مِنْ قَابِلٍ فِي أَسْبَغِ النِّعَمِ وَأَفْضَلِ الرَّجَاءِ، وَأَنَا لَكَ عَلَى أَحْسَنِ الْوَفَاءِ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاء.

وفي دعاء آخر عن النبي (ص): اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ صِيَامِنَا إِيَّاهُ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ فَاجْعَلْنِي مَرْحُوماً وَلَا تَجْعَلْنِي مَحْرُوماً، فَإِنَّهُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ظَفِرَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا بِبُلُوغِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ إِمَّا بِغُفْرَانِ اللَّهِ وَ رَحْمَتِه‏.

والحمد لله رب العالمين.

السيد محمود الموسوي

من مؤلفاتنا