ما حقيقة رأي الشيخ الصدوق في الشهادة الثالثة وسهو النبي؟

alsadooqما حقيقة رأي الشيخ الصدوق في الشهادة الثالثة وسهو النبي؟

بسم الله الرحمن الرحيم

سأتحدث بلغة توصيفية كتحليل علمي، لشرح حقيقة رؤية الشيخ الصدوق (رحمه الله) في مسألتي الشهادة الثالثة في الأذان، وسهو النبي (ص)، وسأبتعد عن ذكر النصوص لكيلا يطول المقام، كما أن النصوص مشهورة، فالحصول عليها أمر ميسور.

وقبل البدء، لابد أن نؤكّد على أمر مهم في عملية التداول العلمي، وعلى الخصوص الحوار الذي يتمحور حول علماء الطائفة المشهورين بالفضل، ولهم الباع في خدمة الدين.

والأمر هو أننا لابد أن نتثبّت من الآراء المناقش فيها، ثم نحاول أن نقرأها قراءة متأنية، ولابد أن نلاحظ الواقع الزمني الذي قيلت فيه هذه الفكرة أو تلك، لأنها قد تكون متأثرة به، أو مراعية لظروفه.

ولو ثبت الخلاف مع مشهور العلماء، أو مع عالم آخر، فلابد أن نجعل ذلك في دائرة الاجتهاد والاختلاف العلمي، الذي يحتاج بدوره إلى مناقشة في الآراء بنهج علمي، وهذا يُبعدنا عن لغة التسقيط والتساهل في هتك شخصيات العلماء، فلابد أن يحذر كل من ينتهج اللغة الحادة في النقد أشدّ الحذر، ويحتاط في اختيار كلماته أشدّ الاحتياط، لأن ذلك قد يؤدّي إلى نوع من ادعاء العصمة والعياذ بالله، وفي نتيجته فإنه لا يخدم العطاء العلمي ولا المجتمع الإيماني، وإنما يساهم في خلخلته وتهوينه، أما الحوار العلمي فهو يحفظ حق الاختلاف، ويطوّر المعرفة، ويساهم في تعميقها.

وفي موضوع رؤية الشيخ الصدوق (رحمه الله) في الشهادة الثالثة في الأذان، ورؤيته في مسألة سهو النبي (ص)، قد وقع فيها الكلام بين العلماء، وحصل الاختلاف في مضامينها، التي يترتّب عليها فهم رأيه، والذي بدوره يحدّد الموقف العلمي من ذلك الرأي.

مسألة الشهادة الثالثة

إن رأي الشيخ الصدوق (رحمه الله) في الشهادة الثالثة في الأذان، هو رأي فقهي، إلا أن الحوار فيه شابه المنحى العقائدي.

وحاصله، أن الشيخ الصدوق (رحمه الله) يتحدّث في كتابه (من لا يحضره الفقيه)[1] عن روايات الشهادة الثالثة في الأذان، فذكر أن هناك روايات في الشهادة لعلي بالولاية، وأن محمداً خير البرية، في فصول الأذان، وهذه الروايات قد وضعها المفوّضة من الغلاة (لعنهم الله)، ثم ذكر فصول الأذان، وقال إن هذا هو الأذان لا يزاد فيه ولا ينقص.

ولقد حمل بعض العلماء كلام الشيخ الصدوق على الخطأ، من جهة تمييزه للرّوايات، بمعنى أننا لا يمكن أن نأخذ بكلامه في تمييز تلك الروايات، لأنه قد يكون ثبت عنده اجتهاداً أن هذه الروايات يصح وصفها بالوضع، (ولا شك أن الفقيه لابد أن يكون صادقاً في اجتهاده، فإذا انكشف له بأنها موضوعة، فلا يمكنه الأخذ بها)، هذا، مع العلم أن الشيخ الصدوق لم يحدّد تلك الروايات التي وصفها بهذا الوصف، وهنا حتى لو أخذنا بتمييزه للروايات، فإننا لا يمكن أن نأخذ بعمومه، لعدم علمنا بالروايات التي يعنيها خصوصاً.

ولذلك قال بعض العلماء إننا لم يثبت عندنا أن تلك الروايات موضوعة، فيمكننا شرعاً أن نأخذ بها، ونرتّب عليها الآثار الفقهية، ولا شك أنه قد يمكن إثبات الضعف في الروايات، إلا أن إثبات الوضع، لهو أمر صعب، وبعيد المنال.

وبعضهم قال إن الشيخ الصدوق لم يكن يقصد نفي استحباب الشهادة الثالثة في الأذان بنحو مطلق، وإنما كان يتحدّث عن الجزئية (سواء الواجبة أو المستحبة)، وكان مشهور الفقهاء أن الشهادة الثالثة في الأذان ليست جزءاً من الأذان، بمعنى أنها ليست جزءاً واجباً، أو جزءاً مستحباً (بالاستحباب المباشر).

ويمكننا أن نفهم نفي الجزئية بأن دليلها لم يكن بنفس الدليل الذي نص على فصول الأذان، بل من روايات أخرى، فعلى سبيل المثال، فلو جاءت رواية فيها فصول الأذان مع الشهادة الثالثة، ورواية أخرى ليس فيها الشهادة الثالثة، فتُحمل الإضافة على الاستحباب الجزئي، فيمكن للفقيه أن يقول إن الشهادة الثالثة جزء من الأذان، للرواية التي نصّت عليها، ولكن ذلك الجزء حكمه الاستحباب، للرّواية الأخرى التي لم تنصّ عليها.

ولأن هذا النوع من الروايات غير موجود، فيمكن للفقيه أن ينفي الجزئية بهذا المعنى، لكنه لا ينفي الاستحباب مطلقاً، فإثبات استحباب الشهادة الثالثة بروايات عامة أخرى ممكن، بل هو ثابت، فقول الفقيه بالجزئية وعدم الجزئية في هذا المعنى، هو اختلاف لفظي، والنتيجة واحدة في أن الإنسان يؤجر ويثاب على ذكر الشهادة الثالثة في الأذان، ولكن توصيفه العلمي قد يختلف بحسب اختلاف الأنظار للدليل.

وأدلة استحباب ذكر أمير المؤمنين بعد ذكر النبي (ص) والذي يشمله ذكر النبي في الأذان، لم نجد أن الشيخ الصدوق نفاها، أو لم يتحدّث عنها، فالقول بأنه لا يرى استحباب الشهادة الثالثة في الأذان بنحو مطلق، هو تقوّل على الشيخ بلا دليل، ثم أن الشيخ الصدوق ذكر في سياقه كلامه ذاك، ما يمكن أن نفهم منه هذا المعنى، وهو (ولا شك أن علياً ولي الله، وأنه أمير المؤمنين حقاً، وأن محمداً وآله خير البرية. ولكن ذلك ليس في أصل الأذان)[2].

مع أن البعض قد خالفه حتى في هذا المستوى من الاستدلال.

وما نذكره من عدم وجداننا لرأي الشيخ الصدوق مكتملاً، هو نظير ما يُنقل عن الشيخ كاشف الغطاء الذي اشتهر عنه أن رأيه كالشيخ الصدوق في نفي الشهادة الثالثة عن الأذان، ولكن لو لاحظنا رأيه، فهو يقول: لو جئت بها كجزء أساسي من الأذان، وادعيت أن هذا ما قاله النبي (ص) فهو تشريع محرّم، لأنك اعتبرتها من دون دليل بحسب كلامه، أي ليس بدليل خاص.

 لكنه يقول مستدركاً فيما بعد، "ومَن قصد ذِكر أمير المؤمنين (عليه السّلام)، (لرجحانه في ذاته، أو مع ذكر سيّد المرسلين) أُثيب على ذلك"[3].

كما قلنا، لقد اشتهر عن الشيخ كاشف الغطاء أن رأيه كالشيخ الصدوق، وهو بالفعل جاء برأي الشيخ الصدوق في كشف الغطاء، ولكننا ظفرنا بتوضيح إضافي لرأيه، بحسب ما ذكرناه، ولم نظفر بذلك من كتب الشيخ الصدوق، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، بل إن الشيخ الصدوق قد ذكر في كتابه (اعتقادات الإمامية) أنه سيقوم بشرح الكتاب في وقت لاحق، ولكنه لم يتمكن، أو أننا لم نر ذلك التفسير، ومن قوله (وسأملي شرح ذلك وتفسيره إذا سهّل الله عز اسمه عليّ العود من مقصدي إلى نيسابور). تصحيح الاعتقاد، ص20

فلا يمكن أن نقطع برفض الصّدوق لتلك الصور الاستدلالية التي جاء بها كاشف الغطاء، حيث ذكر نوعين من الاستدلال، وهما المحبوبية الذاتية لذكر أمير المؤمنين (ع)، ومحبوبية ذكره بعد ذكر النبي (ص)، بل يمكن أن نؤكّد على أن الشيخ الصدوق يرى تلك الدلالات كما هو مشهور علماء الطائفة.

وربما لم يفصّل الشيخ الصدوق للاعتبارات السياسية حينها.

وذلك فإن مَن قبل الروايات المباشرة في الشهادة الثالثة، فستكون هي نوعاً ثالثاً من الاستدلال عليها، وليست هي الدليل الوحيد، فتأمل ذلك.

مسألة سهو النبي (ص)

أما مسألة سهو النبي (ص) التي قيل إن الشيخ الصدوق (رحمه الله) قال بها، فهي مسألة اعتقادية، ونحن نعلم شهرة الشيخ بصلاحه وفضله وجهوده في خدمة الدين، فأي رأي يتبنّاه، لم يكن نابعاً من هواه، وإنما هو اجتهاد كما يراه في اعتبار الدليل، وفهم دلالته، كما يمكن أن نفتح باب الاحتمال على تأثير ظروف التقية الزمانية حينها.

ولقد تمّت مناقشة الشيخ الصدوق في كلامه حول سهو النبي (ص)، الذي لم ينفه بالمطلق كما سنبيّن، ومنهم الشيخ المفيد، وقال أنه لا يجوز على النبي (ص) السهو عقلاً ونصاً، ومن جاء بعدهم من العلماء ركزوا البحث في الاعتقادات التفصيلية، والتي هي عادة تكون نتيجة دراسة الكثير من النصوص القرآنية، والروائية، ثم الخروج برؤية ناضجة وراسخة، يؤيدها القرآن الكريم، وتصدّقها الروايات الشريفة، فقالوا بتأكيد عقيدة عدم جواز السهو على النبي (ص).

ولا يعني ذلك أن الاعتقادات التي ذكرها الشيخ الصدوق في كتبه، كانت اعتقادات متأخرة عن النضوج العلمي، ولا يعني ذلك أيضاً أن رد الشيخ المفيد وغيره عليه، هو من قبيل الردّ على المنحرفين والعياذ بالله، وإنما هو نوع من الحوار العلمي.

والمطالع لكتاب تصحيح الاعتقادات للشيخ المفيد، والذي اشتهر أنه كان يردّ على استاذه الصدوق، سيجد أن الكتاب هو عبارة عن شرح لكتاب الصدوق، فتارة يشرح قصده، بقوله (وهو كما يقول، ولكنه لم يذكر السبب)، وتارة يضيف معنى، بقوله (وليس ذلك المعنى فحسب)، وتارة يخالفه في المعنى، إلا أن تلك المخالفة تكون من باب تعدد المصداق والتأويل، وليست من قبيل الخطأ، وهناك مخالفات قام الشيخ المفيد بتخطئة استاذه فيها، إلا أنه لم يكن في جميعها مصيباً بحسب البحوث المعاصرة.

ويعود بعض الاختلاف إلى منهج المعالجة بين الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، فالشيخ الصدوق منهجه في التعقّل النقلي، ومنهج الشيخ المفيد في بعض كتبه، هو البحث الكلامي، وبهذا وذاك نجد أن بعض ما ذكره الشيخ المفيد لم يكن في بعض آرائه موافقاً مع الآراء القديمة والمعاصرة لبعض علماء الشيعة،  فعلى سبيل المثال، إنه لا يرى أن جميع أهل البيت (ع) قد قضوا بالقتل والسّم، ويجد أن لا سبيل إلى الاعتقاد بأن الإمام الرضا (ع) قد مات مسموماً، قال هذا في ردّه على الشيخ الصدوق الذي يقول بذلك، وقد ساهمت البحوث الجديدة في تركيز الدليل على هذه المسألة وغيرها، عبر سعة القبول بالروايات العامة والخاصة، وتطوّر الجمع الروائي، والعرض على القرآن الكريم، وغير ذلك.

وهنا لابد أن نؤكّد على أن عقيدة عدم جواز السهو على النبي (ص) لم تكن جديدة، كما ادعى البعض في دعواه من أنها من الاعتقادات التي جاءت بعد القرن الرابع الهجري، وإنما التطوّر كان في التركيز وزيادة الاستدلال في الاعتقادات، في بعض الحقب الزمنية، والتي منها عدم جواز السهو على النبي (ص)، فتبلور الاستدلال وأصبح أكثر وضوحاً وأعمق دلالة.

فالشيخ الصدوق، منحاه يعتمد الرّوايات، ويجد أن هناك بعضاً منها يظهر منها سهو النبي (ص)، والروايات بالنتيجة مقدّسة، فقد يأتي البعض الآن ويقول أن هذه روايات قد صدرت تقية، أو أنها غير صحيحة سنداً، ولابد أن نُعرض عن ما خالف الكتاب والمحكمات الدينية، لكن الصدوق يقبل بالرّوايات بشكل عام، فدوره العلمي بأن يقوم بتوجيهها لمعنى لا يصطدم مع الأصول الاعتقادية، ومنها نفي أن يكون النبي يسهو بما يوجب اختلال في تبليغ الدين، أو ما يسبب عدم ثقة في أقوال النبي (ص)، فدعاه ذلك إلى القول بأن النبي (ص) لا يسهو كنقص فيه، بل هو فعل من الله تعالى، لحكمة يراها الله تعالى، ولذلك عبّر عنه بأنه ليس سهواً بل إسهاء من الله عزّ وجل.

فالشيخ الصدوق (رحمه الله) لا يقول بسهو النبي (ص)، وإنما يقول بجواز أن يسهيه الله في بعض الموارد التي هي ليست من شأن التبليغ، لحكمة ما، كنفي الربوبية عنه، ولا يلزم من ذلك محذور عقائدي كبطلان التبليغ، لأن الصلاة هي عبادة مخصوصة، كما ذكر ذلك في كتابه (من لا يحضره الفقيه)[4]، ولكن استشكل عليه، بأن أفعال النبي (ص) كلها تبليغ، فلا يجوز على النبي (ص) السهو فيها كلها.

ومع ذلك، وحتى على هذا المستوى، قد ناقش العلماء الشيخ الصدوق فيها، وهذا ما دعاهم للقول بأن تلك الروايات إما ضعيفة سنداً، وإما تقية، فلا تورث علماً ولا عملاً.

وما يجدر التنبيه عليه، أن الاعتقادات التي ساقها العلماء في كتبهم، ليست بالضرورة تعبّر عن اعتقادات المؤلّف بتفاصيلها، لأن دواعي التأليف عديدة، خصوصاً في مثل أجواء قد تكون مشحونة بالمساجلات الكلامية، أو في ظل أوضاع سياسية ضاغطة، فتكون رسالة الكتاب، رسالة إما لرد شبهة، أو لدفع تهمة، أو لتوضيح عموم، وغير ذلك، ولذلك نجد أن الشيخ الصدوق على سيبل المثال، أشار إلى أنه ينوي شرح كتابه اعتقادات الإمامية، عندما يذهب إلى نيسابور، لعله لأن الوضع أكثر ملائمة هناك، ولا ننفي أن يكون العالم مخطئاً، فلكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة، فيبقى الحوار العلمي هو سيد الموقف، ولغة الأخلاق هي زينة الحديث.

ومع ذلك، فإن باب المعالجات الروائية والتعقلية، للوصول إلى رؤية أكثر دقة، مفتوح، وإن لنا بحث في مثل هذه المعالجة، وهي رؤية مدمجة بين العقيدة والفقه، تحتاج إلى بحث مطوّل، ليس هذا محله.

والحمد لله رب العالمين.

 

* السيد محمود الموسوي

www.mosawy.com

_______________________________________

[1] - الجزء الأول، ص 188.

[2] - المصدر.

[3] - كشف الغطاء، ج3، ص143.

[4] - الجزء الأول، ص359.

من مؤلفاتنا