( أرءيت الذي يكذّب بالدين ، فذلك الذي يدعّ اليتيم ، ولا يحضّ على طعام المسكين ، فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراءون ، ويمنعون الماعون ) المعاني : ( الدين ) : الجزاء / ( يدعّ ) : يزجر / ( يحضّ) : يحثّ ويحرّض / ( الماعون ) : كل ما فيه منفعة . بين الموقف والسلوك .
هل هنالك علاقة بين الموقف والمعتقد الذي يؤمن به الإنسان وبين السلوك الذي ينتهجه في الحياة ؟ للإجابة على هذا السؤال توالت الكثير من النظريات لدى علماء النفس والاجتماع ، وحتى السبعينات من القرن المنصرم لم يكن العلماء قد استقرّوا على رأي يثبت العلاقة بين الموقف والسلوك ، حتى جاء بعض العلماء في الثمانينات وأثبت الصلة بينهما بشرط تطابقهما في المكان والزمان والطبيعة وجميع المواصفات ، فإذا كان موقفه رافضاً للغش مثلاً ، فينبغي أن نتعرّف على نوع الغش الذي يرفضه ، حتى نحدد ما إذا كان سلوكه يتطابق و موقفه أم لا .
وسورة الماعون تقيّم الإنسان من خلال عرضه على ميزان الموقف الذي يتبنّاه و مدى تطابقه مع سلوكه الحياتي ، وترقى بهذا الميزان ليكون محدداً لموقف الإنسان من خلال سلوكه . وقوله تعالى : ( أرءيت الذي يكذّب بالدين ) ( أرءيت الذي يكذّب بالدين )، عرضٌ لموقف وعقيدة يتبنّاها الإنسان وهي التكذيب بالدين الذي يعني الجزاء كما ذكرت التفاسير ، وهذه السمة إنما يتصف بها كل من يمارس سلوكاً معيناً ، وهو ( فذلك الذي يدعّ اليتيم .. إلى آخر السورة ) ، فليس العبرة في تحديد موقف الإنسان وعقيدته هي القول باللسان ، إنما بالسلوك ، يقول ربنا عزّ وجلّ في سورة البقرة : (ومن الناس من يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين )! وهذا الذي يكذب بالدين له صفتان :
الأولى : عدم المسؤولية الاجتماعية
إن الله سبحانه وتعالى أكّد على الأمّة الواحدة وعلى التعاون فيما بينها على البر والتقوى ، وعلى التحنّن على الأيتام ، وإيتاء المساكين حقوقهم ، وأكد رسولنا الكريم (ص) على أن ( المسلمون كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى ) ، وأيضاً ( من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ) ، فإن الذي ينكر حاجة المجتمع ، إنما ينكر الجزاء الذي يترتب عليه .
فهو يمارس فردياً عدم المسؤولية الاجتماعية ( فذلك الذي يدعّ اليتيم )، ذلك اليتيم الذي يحتاج أكثر ما يحتاج إلى العطف والحنان ، فهو يزجره ويدفعه ويكسر قلبه ، وبما أنه لا يمارس الهمّ الاجتماعي فردياً فإنه لا يتمكّن من العمل بصدق ( ولا يحضّ على طعام المسكين ) ، قد يدعو وينخرط في الهم الاجتماعي لأسباب مصلحية أو غيرها ، إلا أنه لا يصل لدرجة إقناع الآخرين بإطعام المسكين ، فقد جاء التعبير القرآني ( ولا يحضّ ) ، ولم يقل ( و لا يدعو ) ، فالحض في درجة أقوى من إطلاق الدعاوى ، فهو التحريض بقوة وصدق ، ولا يصل إليها من لا يلتزم ذلك الشعور مع نفسه .
الثانية : ميزان سلوكه نظرة المجتمع .
وكذلك هو أمام الأعمال العبادية الخالصة لله تعالى التي لا يؤدّيها كما هي مفروضة عليه ، بل يفرّط فيها ، وأهمها الصلاة ، قال الإمام علي (ع) : (ليس عمل أحب إلى الله عز وجل من الصلاة ، فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا ، فإن الله عز وجل ذمّ أقواماً ، فقال : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون )، يعني أنهم غافلون ، استهانوا بأوقاتها ) ، وكما جاءت الأحاديث لتؤكد أن ، ( بين الكفر والإيمان ترك الصلاة )قال عز وجلّ ( فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ) ، كسلوك فردي بينهم وبين الله تعالى ، وفي المقابل فإنهم ( الذين هم يراءون ) ، يحافظون على الصلاة أمام الناس ، وفي الحقيقة هم يصلّون للناس لا لله ، فالمخلص لله يحافظ على الصلاة في أوقاتها في كل الحالات سواء رآه أحد أم لم يره.
ويمنعون الماعون
من لا يحمل في داخله شعوراً تجاه مجتمعه ، ولا يشاركه مشاكله الكبرى ، ويستهين بعلاقتة بالله ، ويحاول الحفاظ على علاقته بالناس ، فذلك يصل إلى درجة أنه لا يمارس المساعدات الخيرية البسيطة التي اعتادت عليها الناس ، كإعارة الأواني أو القرض البسيط أو إعارة الكتب وما إلى ذلك من المساعدات اليومية ، فإذا شاع هذا السلوك ، فإن عجلة تقدم المجتمع ستتوقّف حتى عن أبسط أمورها ، التي تتجلّى في قول ربنا عزّ وجلّ : (ويمنعون الماعون).
بصائر للحياة .
(1) سلوك الإنسان يعبّر عن مكنوناته التي يؤمن بها، فلا بد لكل عقيدة من سلوك يطابقها في المظاهر والأهداف .
(2) الاشتغال بهموم المجتمع ، والالتفات إلى احتياجاته ولو كانت بسيطة ، من الأمور التي ترتبط بالعقيدة الإلهية .
(3) للمشاركة الفاعلة في المجتمع وللتأثير الناجح في المسار الخيري ، لا بد أن يلتزم الإنسان كسلوك فردي بذلك المسار .
ينبغي أن لا نستهين بالمعونات الصغيرة ، كالإعارات البسيطة في دورها لتكامل المجتمع وتقدّمه .
مقالات ذات صلة:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 48807 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35927 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33194 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 31449 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28357 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20471 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19739 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 19592 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19513 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15792 مرُة