لقد أعطى الله الحرية للناس وحمّلهم مسؤولية ما يتخذونه من قرارات يكون هو -عز وجل- الطرف الوحيد المسؤول عن حسابهم عليها، وهذا بالطبع لا يسقط مسؤولية إرشاد الناس لما نعتقد بصحته وأفضليته ولا يعني التراخي في تبليغهم الحق الذي نجزم به. بل يعني أن ندعوهم للخير بكل جد وإصرار، ثم نترك لهم مطلق الحرية والخيار. ولقد جمع هذا المعنى في قوله تعالى: "فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر".
إن أي توجه مهما بلغ من رشد وصواب -وحتى إن كان مصدره إلهيا مباشرا كالقرآن الكريم- فإنه من غير
الممكن أن يخضع له جميع الناس، وبالتالي فإن أي محاولة لفرض أي توجه عليهم تبوء بالفشل الحتمي. قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، وفي هذه الآية إشارة إلى استحالة اجتماع كافة الناس على نهج واحد وتوجه واحد، فاختلافهم هو اختلاف أبدي.
قد ننصدم ونتأسف عندما نرى ما نعتبرها سلبيات أو "انحرافات" تنتشر بين الناس، ولكن يجب أن لا نغفل أن هذا التنوع - بما فيه من اتّباع الخير والشر- هو طريق رقي البشرية ومعرفتها لما فيه صلاحها، وتمييزها بين الحق والباطل، وسعيها -النابع من قناعة ذاتية- لإشاعة الفضيلة ومحاربة الفساد بعد أن ترى بنفسها آثاره المقيتة. بل وأكثر من ذلك، فإن وجود الصالح والفاسد والمهتدي والضال يخلق فرصا حقيقية للتسابق الإيجابي والتنافس البنّاء نحو الأفضل والأمثل. فوجود المخطيء فرصة له وللآخر بأن يتعلم من الخطأ ويتجنبه ليتطور ويرتقي.
إن التعددية هي سنة أرادها الله وبدونها لا يمكن للإنسان أن يتكامل، لأن التكامل هو محصلة تراكم تجارب وتوجهات وأجزاء مختلفة عن بعضها البعض، فالتوجه الواحد لا يمكن له أن يتكامل بمفرده. بل على العكس من ذلك، إن أي تيار أو توجه إذا فقد المغاير والمخالف له فإنه يضعف وينهار نتيجة انعدام النقد وإمكانية الاستفادة من نجاحات الآخرين وأخطائهم كذلك. يظهر هذا جليا في التجارب التاريخية التي اتبعت نهج التفرد والإلغاء للآخر وإن كانت ناجحة جدا ومحقة في بعض توجهاتها، ولكنها كانت دائما تحفر قبرها بيدها وتموت بالأمراض التي تعجز عن تشخيصها نتيجة غياب الرؤية المغايرة والطرف الآخر القادر على رؤية عيوبها بكل وضوح.
ليس مطلوبا من الإنسان أن يقبل المناهج الخاطئة، وليس مطلوبا منه أن يفرض المنهج الصائب عليهم، أو أن يحاسبهم على معتقداتهم، بل مسؤوليته هي تبليغ الحق بكل إخلاص وتفانٍ ثم تقبّل الواقع والتعايش مع الآخرين وإن اختاروا أن لا ينصاعوا لهذا النهج، فنحن نعيش في "عالم التضاد" القائم على هذا القانون الذي أراده الله، ومن يخالف هذا القانون لا يستطيع العيش في هذا العالم بنجاح، بل يكون عنصرا شاذا سرعان ما يتم التخلص منه.
جنبا إلى جنب مع التشديد على التبليغ والتذكير والأمر بالمعروف وإنكار المنكر، وجَّهنا القرآن الكريم صراحة وفي آيات كثيرة لفسح مجال الحرية للآخرين والتعايش معهم، حيث قال -عز من قائل-: "قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا"، وقال: "لكم دينكم ولي دين"،و "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم"، وقال مخاطبا نبيه الأعظم(ص): "نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد".
وكذلك كانت سيرة الرسول الأعظم(ص) حيث وقع ميثاق التعايش والتعاون مع يهود المدينة وما حولها مع مواصلة جهوده العظيمة في دعوتهم للإسلام ومحاورتهم بالعقل والبرهان ومجادلتهم بالتي هي أحسن.
هذه المعاني الجميلة لقيم التعدد والتنوع والاختلاف والمواقف الإيجابية منها مع تأكيد الثبات على الحق وتبليغه مجموعة في آية واحدة من كتاب الله المليء بآيات التسامح والحرية، ولو لم تكن إلا هذه الآية لكفت: "..وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".
هذه هي طبيعة الحياة التي ينبغي لكل من يريد أن يعيش فيها بطمأنينة وسكون أن يتفهمها ويتقبلها ولا يجزع من المواقف السلبية للآخرين إن استقام وبذل قصارى جهده في تبليغ الرسالة "أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ".
ليست هذه دعوة للامبالاة تجاه السلبيات، أو للانسحاب من ساحة الإصلاح، والتملص من المسؤولية الملقاة على عاتق فرد فرد منا، وإنما هي دعوة للتعقل والحكمة في اتخاذ قرارات وخطوات الإصلاح الشجاعة والفعالة.
هي دعوة للتسامح واتباع اللين في مواجهة الخلل انطلاقا من المنطق القرآني الواضح في التعامل مع هكذا ظروف، فلقد شاء الله أن يبقى اختلاف الناس وتنوع مشاربهم في هذه الدنيا لحكم كثيرة أشرنا لبعضها –حسب فهمنا القاصر جدا-، ومن خلاف الحكمة أن ننزعج أو نُستفز أو نصاب بالإحباط نتيجة هذا الاختلاف الطبيعي. ولنتذكر دائما بأن الخلق العظيم لرسول الله(ص) ولمن ساروا على نهجه التسامحي عبر الأجيال كان هو العامل الأول والأكثر تأثيرا في قبول الناس للإسلام واستمراريته وانتشاره الواسع والسريع -الذي لا زال يرعب بعض المراقبين- رغم كل الهجمات الشرسة والتشويه المتعمد والتيارات المناوئة.ــــــــــــــ
* كاتب من السعودية
مقالات ذات صلة:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 49028 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35948 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33870 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 32120 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28587 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20507 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 20033 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19916 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19848 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15918 مرُة