تمثل السياسة البنية الفوقية للتفاعل الإنساني في أطار المجتمع، فالعمل السياسي ومؤسسات الدولة السياسية نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي، من هنا عُدّت الممارسة السياسية ذروة النشاط البشري الاجتماعي. فالاستقرار السياسي في دولة ما يعكس مدى الاستقرار الاجتماعي فيه.
.في عالم العربي ـ الإسلامي ومنذ سقوط الخلافة العثمانية التي كانت إطاراً سياسية لمكونات وتنوعات المجتمع الإسلامي صار الهاجس السياسي يمثل الأولوية لنشاطات النخبة، خصوصاً أن ذلك السقوط توازى معه الإستعمار، وتوج بزرع الكيان الصهيوني؛ مما ضاعف شدة وكثافة التركيز السياسي والعسكري. ويبدو الأمر ملفتاً أن النخب التي قُدِّر لها قيادة وإدارة العالم العربي ـ الإسلامي تنوعت بين اتجاهات اليمين واليسار على مستوى المرجعية الفكرية لكن جميعها في المحصلة ـ وبشكل عام ـ لم تستطع تجاوز الهاجس السياسي ـ العسكري. وهو ما يعكس تواضع مساهماتها الفكرية في غير المجالات التي تنظر للصراع السياسي، ناهيك عن المشاريع الاجتماعية والتنموية.
إذاما تجاوزنا التجربة الإيرانية؛ فإن الملفت ملاحظته أن من قلب الدولة العثمانية بدأت تجربة جديدة بالنمو وكللت بالنجاح بعد مسيرة عقدين من الزمن، حيث تبدّل الوعي لدى النخبة هنالك بالبدأ بالعمل النهضوي من أول الدَرَج لا من أعلاه؛ أي من النبى التحتية وصولاً إلى القمة؛ خصوصاً بعد إنسداد الأفق السياسي بسلاسل العسكر وبنادقهم. وهذا حفّز الطاقات الفكرية والاجتماعية للتركيز على مفاهيم التنمية وأبعادها؛ بدءً من العمل الخيري الإنساني، ووصولاً إلى مشاريع التنمية الاجتماعية؛ مما جعل مشروع الدولة في نهاية المطاف نتيجة طبيعية لعموم هذا النشاط التنموي.
لكن القضية الأهم في المسألة أن هذه التحولات لا يمكن أن لا تترافق مع تحولات في الوعي والفكر تكون أساساً وبنية تتوازى مع المسيرة الاجتماعية وتطورها. وهذا ما يمكن ملاحظته في الجدل الدائر في داوئر الفكر بين المفكرين الإسلاميين فيما يخص التطوير الفقهي بشكل خاص، وعموم الفكر والخطاب الإسلامي. وذلك باتجاه رؤية معاصرة للدين، وفقه حيوي للمستجدات.
والواقع أن المسير في اتجاه فقه للتنمية ليس بالأمر السهل؛ لما يتطلبه من جهود فكرية تنصب على مناطق في الفكر الإسلامي لا تزال تعتبر أرضاً بكراً؛ كمراجعة وتطوير موقع القرآن الكريم في العملية الفقهية، وتطوير آليات التدبر فيه، يترافق مع ذلك محاولات اكتشاف روح الشريعة وأمهات القيم؛ فضلاً عن دراسة البنى الإستدلالية وآلياتها. كل هذا يتزامن مع ضرورة الحوار الفعّال مع أطروحات التنمية المقترحة في عالمنا اليوم؛ كبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، أو تجارب الدول المتقدمة في الغرب، والدولة النامية في شرق أسيا.
ولكن في المحلصة النهائية يظل تفعيل فقه التنمية وتطويره وإعادة إكتشافه ومن ثمّ تحويله إلى ممارسة يومية للعمل الإسلامي أحد أفضل الخيارات التي يمكنها أن تطور الواقع الفعلي للمسلمين، خصوصاً في ظل الظروف الراهنة. ومن جهة أخرى فإنها تضمن للحركات الإسلامية بقاء فعّاليتها الاجتماعية فيما إذا انتحر مشروع الإسلام السياسي؛ بعبارة: إنه مشروع الأمة وتنميتها لا مشروع السلطة وهيمنتها، تموت الدول ولكن تبقى الأمم بتنميتها.
ــــــــــــــ
* عالم دين من الكويت.
مقالات ذات صلة:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 49028 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35948 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33869 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 32120 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28586 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20506 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 20032 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19916 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19848 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15917 مرُة