الكاتب: عباس الجمري*
يواجه المخزون الحديثي المروي عن آل البيت (عليهم السلام) عاصفة من التضعيفات التي يتداخل في رياحها التضعيف المبني على بعض القواعد المنضبطة، مع الرياح التي تأتي سراعاً للتضعيف وهي لا ترتكز على أي متكأ علمي، ومما زيّد هذه الحالة بإزاء المخزون الحديثي الشريف هو سرعة المعلومات وسهولة الحصول عليها في حاضرنا بسبب الانترنت، مما يصنع صُنعاً مزيفاً للفاهم والخبير والمثقف، من دون بناء تراكمي للمعرفة التي تتطلب جُهداً في المطالعة والبحث والتنقيب.
ولم تكن روايات مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ببعيدة عن هذه الحالة، وما نكاد أن نخرج من شوشرة في التضعيف حتى ندخل في أخرى.
الباحث الإسلامي السيد محمود الموسوي أعمل قلمه حرثاً في هذا الجانب، وكتب بحثاً فريداً من نوعه مهره بعنوان (التطور المنهجي في تدوين المقتل الحسيني)، أوضح فيه عدداً من الإشكالات المنهجية التي تعتري بعض الأفهام للبحوث الروائية، والتي تختلج في أكثر من أحايينها بابتسار المناهج في رؤية واحدة مما يجعل الرؤية الدقيقة لتفاصيل المقتل رؤية ضبابية تحتاج لتفكيك هادئ ومدروس.
فمثلا يطرح الكاتب إشكالية تقديم المقاتل التي صدرت في القرون السبعة الأولى الهجرية، وتضعيف بعض التفاصيل في أي رواية صدرت بعد القرن السابع الهجري، وعالج هذه الجنبة بالإشارة أن كتب الشيعة في بعض الأزمنة كانت تُخبأ للظروف الصعبة المتزامنة، والقتل على الهوية، والتضييق الواضح على الشيعة في العصرين الأموي والعباسي، كما لفت المؤلف إلى أن المقاتل أنفسها تحمل تمايزات في ما بينها بسبب توجه كاتب الرواية، فمنهم من نظر لواقعة الطف بعين الكتابة السيرة الشخصية للإمام، وبعضهم كتبها بالنَفَس العقائدي وآخرون كتبوا جانباً من الواقعة كقصة السبايا وسيدتهم السيدة زينب، وهكذا، فالنظر للاختلافات بين منهجية كتابة المقتل يعطينا رؤية أفضل لاختلافات المقاتل الموجودة بين أيدينا.
وأوضح الكاتب ماهية الكتابة التلفيقية للتاريخ، أي الكتابة المركبة من عدة جهات/روايات، وسردها في مقتل واحد، كما جاء في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد وكتاب مثير الأحزان لابن نما الحلي وكتاب اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس.
ومما ينبغي الالتفات له في روايات المقتل وتنوعها هو السمة الأدبية، التي أدخلها الأدباء بغزارة لوجود صلة وطيدة بين واقعة الطف عموما والحسين خصوصا وبين العاطفة الجياشة لمحبي العترة الطاهرة، ولما كانت العاطفة ركناً وثيقاً في تناول سيرة الذبح التاريخي، وأساساً متيناً في تغذية العقيدة بسفينة النجاة، كان للغة الأدبية أثرها الإيجابي والتي لا تخلو من الملاحظات التي يمكن للمحققين من تناولها، وهذا ما لفت له الموسوي في كتابه، مؤكدا أهمية رسم الصورة الفنية للحدث العاشورائي، الذي هو في أصله لوحة دامية يقطر التاريخ من تضحياتها وتنتعش العقيدة من سكب فدائييها، ورغم جمالية هذا المنحى، إلا أنه يغلّب جانباً على آخر نظراً لمدى أثره، مما يجعل الأديب مضطراً للإسهاب في جانب على جانب، وهنا يمكن تسجيل بعض اللفتات، التي لم يغفلها الكتاب.
ومما جعل بحث الموسوي متماسكاً، إدراجه لِما قام به الفقهاء الإمامية عبر التاريخ في كتابة المقتل، والذي سيضيف الكثير لهذه المهمة الصعبة، كون الفقيه لديه أدوات اللغة والرواية والدراية والجنبتين الفقهية والعقائدية بشكل يجعل تحقيقه أكثر اتزاناً وتماسكاً من غيره، وهذا الباب في كتاب الموسوي يضع القارئ أمام مسؤولية البحث عن كتّاب الرواية وفهم عمقهم في أدوات البحث التاريخي، كما يجعل القارئ متريثاً في إصدار الأحكام المستعجلة بشأن بعض التفاصيل التي قد ترد من المنابر وهو لا يستوعبها، وقد أورد الموسوي أسماء بعض الفقهاء الذين تصدوا لهذه الوظيفة الشرعية مع أسماء كتبهم ونبذة عن تلك الكتب.
ولم يفت المؤلف بما سُمي حديثاً بالميزان العقلي في قبول أو رفض الروايات، وقسمه إلى قسمين، الأول هو ما يقوم على المقارنات بين ما يرد في الرواية وبين العصر الحاضر، وهذا النوع قد يقع في إشكالات عديدة. والنوع الثاني، هو الذي يقارن بين الروايات مع الأخذ بالاعتبار مسألة الثوابت العقيدية التي يحتاجها القارئ كترسانة تبصّره بعض المعاني التي جاءت بها أحداث كربلاء.
في اعتقادي أن الكتاب مهم جداً لجميع الفئات، فالخطيب سيستفيد منه في تبصّره لفهم الفروقات المنهجية لكتابة المقتل، وهذا سيضفي له حصافة في الخطابة ونباهة في سرد الأحداث، والمستمع سيستفيد من الكتاب في جانب التنقيب والتريث في رفض بعض المرويات، وسيكون لقبوله أساساً منهجياً، ولعل ذلك سيخفف وطأة الإشكالات التي تثار في كل موسم وأغلبها غير ضروري، بل مضر.
أما الباحثون فسيستفيدون من الكتاب كونه مرجعاً مفهرساً لأنواع المناهج التدوينية، والكتب والكُتّاب، فيمكن للباحث أن يختصر الطريق في إثراء كتابته في أي جانب من جوانب المقتل الشريف بالاتكاء على كتاب التطور المنهجي في تدوين المقتل الحسيني، والوقوف بشكل واضح على الدوافع والأسباب لكتابة هذه الرواية أو تلك، وهذا يتطلب من الباحث خصوصا أن يحمل معه هذا الكتاب في كل مراحل البحث بين الكتب عن واقعة الطف.
16/8/2023م
----------------------
* كاتب وباحث من البحرين
مقالات ذات صلة:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
- صحيفة الوفاق الإيرانية تنشر حواراً للسيد الموسوي - 2012/03/28
- قراءة في كتاب: القادم من العالم الآخر، بقلم الشيخ محمد آل إبراهيم - 2012/08/15
- قراءة في كتاب العولمة والمجتمع لعلي الشرقاوي - 2010/08/22
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28
- قراءة في كتاب: الثورة الحسينية .. مصباحُ هدىً وسفينة نجاة، للسيد محمود الموسوي - 2012/12/12
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 48807 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35928 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33194 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 31449 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28357 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20471 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19739 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 19592 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19513 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15792 مرُة