البَيتُ والقبرُ.. وسِرُّ الصّبر

sm011

البَيتُ والقبرُ.. وسِرُّ الصّبر

لقد بقي ذلك البيت الملاصق لمسجد رسول الله (ص) في سمو لا يُدانى، وعظمة لا تُنال، وبدأ يثير في أذهان المسلمين الذهول، بل والحسد المدموغ بالحيرة، إنه بيت علي وفاطمة، الذي كان لقرار النبي (ص) الصادم بسد الأبواب المطلّة على المسجد كلّها إلا بابه، الوقع المدوّي في أفق الوعي. فقد أعدم النكير، وأزاح لثام الجهل، وأطبق الحق على واقعه.

لقد ضرب ذلك القرار النبوي الوحياني في العمق العقيدي وتداً ثابتاً، قرّ في العقول نوره، وكان لابد للمسلمين أن يلتقطوا إشارته ومغزاه، فقد حل لعلي ما حل للنبي، وكان له بمنزلة هارون من موسى، في الوقت الذي حفر القرآن في آياته المباركة حقيقة الحقائق، وينبوع كل ما ينعقد عليه القلب في إيمانه، بنصّه أن علياً نفس النبي، وكفاها من حقيقة أنزلها الله وبالحق نزلت، فكان البيت من أعاظم البيوت التي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه.

فتُستشهد في هذا البيت المعظّم ربّته ومضيئته، في حدث مدوّ، ملأ الآفاق أساه، ودوّت في الآذان رنّة أحزانه، حيث كانت سيرتها الأحزان بعد شهادة أبيها النبي (ص)، وقبيل صعود روحها إلى بارئها، لم تمرّ بها لحظة من سكون لأنينها، ولم تتوقف الدموع عن انحدارها من مآقيها البتة، فيلازم استشهادها عويل يشحن أرجاء الكون، ودخان يصبغ سماء الدنيا، ودم سقطٍ تغلي بحرارة فاجعته الأرض.

ثم بعد استبانة عظمة بيتها الرفيع، وبعد استشعار فقدها الفجيع، لم نعثر على أثر القبر الذي ضمّ جسدها الطاهر الوديع؟!

لقد كان هنالك سرّ أول لخفاء قبر سيدة الأكوان كلها، كي لا يحضر دفنها والقيام على قبرها من أشعل أوار الفتنة، وأذكى نار فرقة الأمة، وأسس أساس انتهاك الحرمة، وهي حكمة بالغة الرشد، فلا يجتمع النور والظلام، ولا يأتلف عنصر الخير والشرف والكرم، مع عنصر الشر والوضاعة والحسد.

وها هي الأيام قد تطاولت والقرون قد تعاقبت، وظهرت آثار قبور الأولياء التي أضمرتها ظروف القهر والخوف، كقبر علي والحسين والكاظم والرضا (عليهم صلوات المصلين)، فها هي قواعدها ترتفع في سمو، وقبابها تزدان بها السماء، وتشمخ منائرها فعانقت النجوم، ولاحت لكل ناظر مهما باعدته الأسفار، فشدّ لها الناس رحلهم من كل البقاع رجالاً وركباناً، واحتشدوا حولها باختلاف الألوان، وسلّمت على أهلها الأصوات، بصنوف اللغات، إلا قبر سيدتهم وقدوتهم، وسيدة العالمين فاطمة الزهراء (ع)، لم تقع عين بشر على أثر له، فضلاً عن اعتلاء القباب والمنائر، ليقف العاقل الخبير، يحمل أكواماً من تعجّباته، متسائلاً: فهل يوجد سرّ في ذلك؟، وإن وُجد، فما هو السر في ذلك؟

تعال معي لنجمع الآثار، ونتتبّع الأثر، ونقلّب النظر، ونحاول أن نثير الدفائن، فلعل من غباره ترتسم أمامنا صورة قريبة من الواقع.

(القبر)

تزاحم الناس حول بيت فاطمة (ع) يتحيّنون موكب جنازتها، إلا أن أبا ذر أطلّ عليهم من خلف الباب، وأعلمهم بقرار تأخيرها إلى الليل، فانسحب كل واحد منهم إلى بيته، فلمّا جّنّ الليل ومضى منه جزء، خرج أمير المؤمنين (ع) وبرفقته الحسن والحسين (ع) يجلّلهم الأسى، ويعتمر قلوبهم الكمد، ومعهم نفر من الخواص، متوجهين ناحية البقيع، ويعلو أكتافهم نعشٌ يُخفي ما فيه، وبعد أن استقر بهم الحال في بقيع الغرقد، حفروا ثم دفنوا في جنح الظلام، فأنهوا عملهم وقفلوا راجعين، فلمّا أصبح الناس، وأسفر وجه الصبح، تفاجأوا بسبعة من القبور الطرية في البقيع الغرقد، وقيل أربعين قبراً، فاشتبه عليهم موضع القبر الحقيقي.

فكانت تلك الخطة لتمويه موضع قبرها من أسّ، وليس فقط لكي لا يحضر من ظلمها جنازتها كما هي وصيتها المشحونة غضباً عليهم، لأن دفنها في ليل دامس، ودون إعلان وقت، من شأنه أن يحقّق الغرض، ويفي بالمطلب، أما أن يقف الناس على سبعة قبور متشابهات، فذلك هو ما زاد على المطلب الموصى به من قِبَل فاطمة (سلام الله عليها)، وهو خفاء القبر من أساس.

(البيت)

البيت الذي عظّمه الله تعالى تشريفاً لساكنيه وهم أحياء، فلا يبعُد أن يكون بيتاً أبدياً لجسد ربّة البيت ومنبع عظمته.

أكان أمير المؤمنين والحسنان يوارون جسدها الطاهر في لحد قد حُفر في جانب من البيت؟ مما يعني أن جميع القبور السبعة ليست إلا لإشغال الأعداء بها، ولكي يقصر نظرهم في التخيّر بينها؟

يبدو أن هذا ما حصل.

فقد تباينت الآراء في موضع قبر فاطمة (سلام الله عليها) على أقوال ثلاثة، كما في أسفار أرباب العلم والنظر، فمنهم من قال أنها دُفنت في بيتها، ومنهم من قال أنها دُفنت بين قبر النبي (ص) ومنبره الشريف في الروضة، وقيل أنها دُفنت في مقبرة البقيع.

ويبدو أن أضعف الأقوال أن يكون قبرها في البقيع، الذي اشتهر عند العامّة، أما عن كونه في الروضة الشريفة، فذلك استقراب من بعض الأعلام على تردد بينها وبين موضع بيتها العامر، الذي صرّح بالقطع به جمع من علماء الطائفة وأربابها، واستدلوا لذلك بروايتين عن الإمام الرضا (ع) يخبر بعض شيعته بأن بيت فاطمة (ع) المعظّم، قد ضمّ قبرها المشرّف.

فمنها عن البزنطي‏ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا (ع) عَنْ قَبْرِ فَاطِمَةَ (ع)، فَقَالَ: دُفِنَتْ فِي بَيْتِهَا، فَلَمَّا زَادَتْ بَنُو أُمَيَّةَ فِي الْمَسْجِدِ، صَارَتْ فِي الْمَسْجِد.

وعلى إثر ذلك عندما انهى الشيخ الصدوق نسك حجّه في القرن الرابع الهجري، قصد المدينة المنوّرة، ليتمّم حجه بزيارة النبي (ص) وآل بيته الأطهار، فوقف مستقبلاً بيت فاطمة (ع) وأنشأ لها زيارة حينما لم يجد لها زيارة موظّفة، فيما يُروى من الأحاديث، فكانت زيارته موضع اشتهار بين المؤمنين، فأثبتها بعده جامعوا المجامع الروائية، وكانت زيارة رشيقة الألفاظ، اقتفى فيها أثر ما روي في زيارة أولادها الأطهار، فضمّنها عرفانه بمقامها، وصلواته على أولادها الأبرار.

إذاً، البيت الذي كان زغب الملائكة يتناثر في أرجائه، استقرّت فيه ملائكة الزيارة، الذين يحفظون الزائرين ويستغفرون لهم، ويؤَمّنون على دعائهم، فكانت العبادة فيه أعظم من العبادة في مواطن كثيرة، ومنها الروضة الشريفة، التي هي روضة من رياض الجنة، ومنبر النبي (ص) على ترعة من ترعها، بهذا صرّح الإمام جعفر الصادق (ع) وأوضح، كما في كافي الكُليني:

عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع): الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ (ع) أَفْضَلُ، أَوْ فِي الرَّوْضَةِ؟ قَالَ: فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ (ع)‏ .

وعَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع): الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ (ع) مِثْلُ الصَّلَاةِ فِي الرَّوْضَةِ؟ قَالَ: وَأَفْضَل‏.

(سِرّ الصبر)

سنّة الصبر كانت سمة لأمير المؤمنين (ع)، صبغت نهجه بعد النبي (ص)، لما يتطلّبه مستقبل الدين، لتشييد أركانه، وتبليغ مقاصده، فكان أحد عناوينها أنه الصابر على فراق حليلته وحبيبته الزهراء (ع)، والصبر قبلاً على ما صُبّ عليها من مصائب، فكان عليه أن يتجرّع الآلام ويحتمل كل ذلك في قلبه الكبير، وقد أدار وجهه ناحية قبر رسول الله (ص) عندما انتهى من دفن ابنته، قائلاً: "قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَعَفَا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ لِي فِي التَّأَسِّي بِسُنَّتِكَ فِي فُرْقَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ".

 إلا أن ما يحيط بقبر الزهراء من أسرار، يذوب عنده جلد الصبر، لحرارة المصاب، وللهيب الآلام، فهو جرح إن نُكئ، احمرّت لشأنه السماء، وسالت أودية الأرض بأنهر من دموع، لن تبقي شانئاً، ولن تذر مريباً.

فلمّا تناهى لسمع أمير المؤمنين نية البعض نبش القبور المعفاة في البقيع، لتعيين قبرها الطاهر بحجة تأدية زيارتها، انطلق مغضباً ناحية البقيع، قد احمرّت عيناه، وسيفه ذو الفقار على عاتقه، وأنذرهم: أن لو حرّك أحد ساكناً لواحد من هذه القبور، لبانت لمعات سيف الله في الرّقاب.

فكانت هذه الحادثة بليغة في المعنى، جليّة في البيان، أن الصبر حدوده قبر فاطمة (سلام الله عليها)، فتولّى القوم عن البقيع بعد أن تجرّعوا الأياس، وجرّوا ذيول الخيبة.

فما علاقة الصبر بالقبر؟

ولِمَ لم نظفر بنصوص زيارة مفجعة كما ظفرنا بالكثير منها في حق فاجعة الطف؟

من المسلّم به أن زيارة القبور في مضامينها، أنها ملاذ المشتاق، وكهف المحزون، ومفزع الجَزِع الصارخ في الجموع بلوعته، فيصبّ شهاداته في صاحب القبر صبّاً للحقيقة في مواضعها، وما اكتنفها من جهاد وجهود ومصائب، مردداً: (أشهد أنك طهر طاهر، أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده، أشهد أنك قُتلت مظلوماً، أشهد أنك..)، فلا يزال يردد حتى يحصي كل الآلام، ويَعدّ كل المآثر، ويحسب كل مثلبة أتى بها الظالمون، ويُعلن البراءة منهم ومن أشياعهم.

أمام هذه الحقيقة، يبدو أن مقدار ما يمكن أن يتحمّله البشر في الفاجعة، لا يرتقي لاحتمال فاجعة الزهراء (عليها السلام)، وقوّة رياح آلامها لن يتحمّل شدّتها الواقع الهش، فكان الصبر محيطاً بسور القبر..

فلقد رأى بعض الأعلام الماضين أن خفاء القبر مستمرّ ما استمرت غيبة ابنها الحجة المنتقم (عجل الله فرجه الشريف)، وقد لا يكون ذلك دقيقاً بهذا المعنى، لفقده البرهان، ومخالفته للواقع، إلا أن ذلك قد يكون واقعاً إن كان المقصود بذلك عمارة قبرها، وعلو قبته، ورفعة منائره، وإنشاء المعصوم نصاً لزيارتها يفي بالحاجة، فيسرد فيه الآلام، ويفجّر صرخات الأكوان، ويشبع الإيمان بعميق الولاء وصريح البراء.. لعل..

فإن النص الوحيد الذي تحصّله العلماء وأثبتوه في مجامعهم في زيارتها، ما جاء به التهذيب، عن أبي جعفر الباقر (ع)، قائلاً:

"إِذَا صِرْتَ إِلَى قَبْرِ جَدَّتِكَ فَاطِمَةَ (ع)، فَقُلْ: يَا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكِ، فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَةً، وَزَعَمْنَا أَنَّا لَكِ أَوْلِيَاءُ وَمُصَدِّقُونَ وَصَابِرُونَ، لِكُلِّ مَا أَتَانَا بِهِ أَبُوكِ (ص)، وَأَتَانَا بِهِ وَصِيُّهُ (ع)، فَإِنَّا نَسْأَلُكِ إِنْ كُنَّا صَدَّقْنَاكِ، إِلَّا أَلْحَقْتِنَا بِتَصْدِيقِنَا لَهُمَا بِالْبُشْرَى، لِنُبَشِّرَ أَنْفُسَنَا بِأَنَّا قَدْ طَهُرْنَا بِوَلَايَتِكِ".

فكان عنوان ما يلهج به الزائر عند زيارتها، هو (الصبر)، فهي (سلام الله عليها)، (الصابرة) فيما امتحنها الله تعالى حتى قبل خلقها البشري، ويتوجّب على زائرها أن يسالمها (بالصبر)، فقد جاء عند قبرها للإقرار به، بل كان (الصبر) دليل (التصديق) بكل الدين، الذي أوقدت جذوته في قلب أبيها النبي (ص)، وحمل شعلتها زوجها الوصي (ع).

إلا في حدود (البيت)...

السيد محمود الموسوي

من مؤلفاتنا