زيارة أمير المؤمنين (ع) منفذ إلى العظمة

hqdefaultزيارة أمير المؤمنين (ع)

منفذ إلى العظمة

المصدر: كتاب بيضاء من نور، ط2، السيد محمود الموسوي

شخصية الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن خافية على أحد في عظمتها، فهو (عليه السلام) صاحب شخصيّة ربانيّة فريدة، طالما أعجبت حتى المغايرين له في العقيدة، الذين تعمّدوا إظهار إعجابهم عبر مؤلفاتهم وتصريحاتهم، وقد أولوا الاهتمام الكبير للحفر الفكري في شخصية الإمام (عليه السلام)، وفي دراسة مواقفه وعرضها للآخرين كأنموذج من أروع نماذج التاريخ البشري نصوعاً، كما كتب الكاتب المسيحي جورج جرداق موسوعته الموسومة بـ (الإمام علي صوت العدالة الإنسانيّة) في خمسة مجلدات، حيث قال فيها: "وبطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم وتعبده للحق أينما تجلّى له الحق، وهذه البطولات ومهما تقادم بها العهد، لا تزال مقلعاً غنياً نعود إليه، وفي كل يوم كلما اشتدّ بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة فاضلة"[1].

إن المتطلع نحو الكمال بأجلى معانيه وأعمق مراداته لابد له أن لا يتخطى الإمام علي (عليه السلام)، لما مثّله من مكانة في الإسلام بل وفي تاريخ الإنسانية بأكملها، ولما قام به من جهود لا مثيل لها في خدمة الرسالة، ولما تحلّى به من مواصفات الكمال البشري، حيث لم يدع أياً من علامات الكمال إلا وسجل فيها الدرجة النهائية التي لا يمكن أن يرقى لها بشر سوى رسول الله (صلى الله عليه وآله).

إن أمير المؤمنين (عليه السلام) يشهد لنفسه بالعظمة عبر الحقائق التي لا ريب فيها، فهو (ع) القائل:

"أنا من رسول الله (ص) كالعضد من المنكب وكالذراع‏ من العضد وكالكف من الذراع، رباني صغيراً، وآخاني‏ كبيراً، ولقد علمتم أني كان لي منه مجلس سر لا يطلع عليه غيري، وأنه أوصى إلي دون أصحابه وأهل بيته، ولأقولن ما لم أقله لأحد قبل هذا اليوم: سألته مرة أن يدعو لي بالمغفرة، فقال: أفعل. ثم قام فصلّى، فلما رفع يده للدعاء استمعت عليه، فإذا هو قائل: اللهم بحق علي عندك، اغفر لعلي. فقلت: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: أ َوَأحد أكرم منك عليه؟! فأستشفع به إليه‏"[2].

وقال: "عَلَّمَنِي - رسول الله (ص) - أَلْفَ‏ بَابٍ‏ مِنَ‏ الْعِلْمِ‏، فُتِحَ لِي مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَاب‏[3]".

وقد روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) في أماليه، محاورة سعيد بن جبير مع عبد الله بن عباس عن فضائل شخصية الإمام علي (عليه السلام)، ما بين فيها ابن عباس من خلال معرفته ومعاشرته ما يحيّر الألباب في تلك الفضائل المتدفّقة من أمير المؤمنين (ع).

عن سعيد بن جبير قال: أتيت عبد الله بن عباس فقلت له: يا ابن عم رسول الله، إني جئتك أسألك عن علي بن أبي طالب واختلاف‏ الناس‏ فيه؟‏ فقال ابن عباس: يا ابن جبير، جئتني تسألني عن خير خلق الله من الأمة بعد محمد نبي الله، جئتني تسألني عن رجل كانت له ثلاثة آلاف منقبة في ليلة واحدة، وهي ليلة القربة. يا ابن جبير جئتني تسألني عن وصي رسول الله (ص) ووزيره وخليفته وصاحب حوضه ولوائه وشفاعته.

والذي نفس ابن عباس‏ بيده، لو كانت بحار الدنيا مداداً، و الأشجار أقلاماً، و أهلها كتّاباً، فكتبوا مناقب علي بن أبي طالب (ع) وفضائله من يوم خلق الله عز وجل الدنيا إلى أن يفنيها، ما بلغوا معشار ما آتاه الله تبارك وتعالى[4].

فشخصية أمير المؤمنين هي الشخصية المثلى التي تُمثّل معدن الحق والعدل والصلاح والإحسان والهدى في صورة بشرية، بل هو مقياس الحق، يلحقه أينما راح وتوجه، فـ "عَلِيٌ‏ مَعَ‏ الْحَقِ‏ وَالْحَقُّ مَعَهُ لَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْض‏[5]". كما هي شهادة رسول الله (ص) فيه. وهذا البيان الرسولي لهو بيان العصمة والاستقامة الأبدية في شخصية الإمام علي (ع)، فهو والحق كالشخص وظله، وهو والقرآن كترجمان حي في صورة بشرية، وهو والنبي كنفسه التي لا تنفك عنه.

وعندما نضع نصب أعيننا هدف الاقتداء بسيد البشرية الذي يقول: "أَعِينُونِي‏ بِوَرَعٍ‏ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ"[6]، فإن زيارته وشدّ الرحال نحو قبره الشريف، لهو مفتاح من مفاتيح هذا الباب الواسع سعة الآفاق، ينفتح منه آلاف الأبواب نحو الحياة الإنسانية في كافة جوانبها الكمالية.

ثواب زيارته (ع)

لقد ورد في الأحاديث الشريفة في ذكر زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في بقعته النوراء موضع قبره الشريف في النجف الأشرف، الفضل الكثير، وذلك تحفيزاً نحو الإمساك بهذا المفتاح التغييري الكبير، كبداية لانطلاقة التغيير في الشخصية، من باب أمير المؤمنين (ع) ومنفذه، وعن طريق الإمساك بحبله المتين المتصل بين السماء والأرض، وها نحن نذكر بعض هذه الروايات، ليعيش الزائر تائقاً لزيارته، مترقّباً الفضل والخير الكثير من خالقه.

روضة من رياض الجنة

1- فرحة الغري: بالإسناد، حدثنا سلامة، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن محمد بن أحمد، عن أبي عبد الله الرازي، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن صفوان، عن أبي أسامة، عن أبي عبد الله (ع)، قال: سمعته يقول‏:‏

الْكُوفَةُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فِيهَا قَبْرُ نُوحٍ‏ وَإِبْرَاهِيمَ (ع)، وَقُبُورُ ثَلَاثِمِائَةِ نَبِيٍّ وَسَبْعِينَ نَبِيّاً، وَسِتِّ مِائَةِ وَصِيٍّ، وَقَبْرُ سَيِّدِ الْأَوْصِيَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)[7].

‏تكلّلت روضة الكوفة بصفتها روضة من رياض الجنة بقبر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعد أن كانت محط قبور الأنبياء والأوصياء، ولاشك أن أفضلهم وسيدهم هو الإمام علي (ع)، ويبدو أن الإمام الصادق (ع) إنما ذكر وجود قبور الأنبياء والأوصياء لبيان طيب الأرض التي حل بها جثمان الإمام علي (ع)، وذِكره هذا يُفهم منه أن المقصود بالأصالة من ذكر هذه القبور هو قبره الشريف، وذِكره البقية قبل ذلك هو مقدمة وبيان المزيد من شرف تلك البقعة المباركة.

يزوره الله وملائكته وأنبياؤه

2- كامل الزيارات: حدثني أبي، ومحمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى العطار، عن حمدان بن سليمان النيشابوري، عن عبد الله بن محمد اليماني، عن منيع بن الحجاج، عن يونس عن أبي وهب البصري، قال: دخلت المدينة، فأتيت أبا عبد الله (ع)، فقلت: جُعلت فداك، أتيتك ولم أزر قبر أمير المؤمنين (ع).‏

قال: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، لَوْ لَا أَنَّكَ مِنْ شِيعَتِنَا مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ، أَلَا تَزُورُ مَنْ يَزُورُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَيَزُورُهُ الْأَنْبِيَاءُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [وَ يَزُورُهُ الْمُؤْمِنُونَ‏]؟!.

قلت: جُعلت فداك، ما علمت ذلك.

قال: فَاعْلَمْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، وَلَهُ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ، وَعَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فُضِّلُوا[8].

بالرغم من أن أبا وهب البصري قد قصد الإمام المعصوم الشاهد في عصره وهو الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، إلا أن الإمام أراد أن يبيّن له ولكافة الأجيال بعده، أهمية زيارة الإمام أمير المؤمنين (ع) لكل مؤمن يعتقد بأهل البيت (ع) أئمة مفترضي الطاعة من الله تعالى، فباعتباره مؤمناً بهم (ع) اسحق التوجيه، وإلا لو كان غير ذلك لما استحق من الإمام أن ينظر إليه.

والبيان الثاني للإمام (ع) أن فضل زيارة أمير المؤمنين وعلو منزلتها، هو باعتبار الإرتباط بشخصيته من خلال الزيارة، وهو أفضل الأئمة من ولده (عليهم السلام)، حيث أن له فضل عمله كإمام، إضافة إلى ثواب أعمال سائر الأئمة باعتبار أنهم إشعاعات من نوره سلام الله عليه.

وفي تعبير الإمام (وعلى قدر أعمالهم فضّلوا) فيها إشارة إلى وجود التفاضل بينهم سلام الله عليهم، ولكن من جهة الأعمال، وهذا لا يعني نفي وحدة الفضل التي ذكرتها بعض الروايات، لأن وحدة الفضل ناظرة لجهة الحجّية، أي باعتبارهم حججاً على العباد فلهم نورية واحدة، وجوب طاعتهم والإيمان بهم سواء لا فرق بين أولهم وآخرهم، كما قد بين القرآن الكريم هذا الأصل في قول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}[9]، فلا سنخية أو تفاضل بين الله تعالى وخلقه، حتى لو كان ذلك أعظم خلقه وهو نبيه محمد (ص) ولا مقارنة به في الفضل، إلا أنه في جانب الطاعة وهو الإرتباط بالله تعالى ورسوله من جهة الحجية أصبحت الطاعة بين الله ورسوله سواء، وكذا ما تفرّع من النبي (ص) من ذريته التي بعضها من بعض في هذا المقام الأسمى.

له الجنة

3- الوسائل: محمد بن محمد المفيد في المقنعة، عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (ص)، قال:

مَنْ‏ زَارَ عَلِيّاً بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَهُ الْجَنَّة.[10]

إن النبي (ص) يوجّه المسلمين إلى الإرتباط الدائم بأمير المؤمنين (ع)، بحيث يشمل حتى زيارة قبره الشريف بعد وفاته، وأن هذه الزيارة لها قيمة عالية وهي الجنة التي يعمل العاملون من أجل الفوز بها في الآخرة. وهنا لفتة جميلة نستفيدها من عبارة النبي (ص) وهي أنه، قال: من زار علياً بعد وفاته، أي أن الزيارة بعد الوفاة والتي هي التوجّه نحو قبر المتوفّى، إنما هي زيارة حقيقية لشخصه، والقبر هو علامة يتصل فيها الزائر بصاحب القبر.

تفتح لزائره أبواب السماء

4- كامل الزيارات: حدثني محمد بن يعقوب، عن أبي علي الأشعري، عمن ذكره، عن محمد بن سنان، وحدثني محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، قال: حدثني ابن سنان، قال: حدثني المفضل بن عمر، قال‏:

 دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْتَاقُ إِلَى الْغَرِيِّ.

قال: فَمَا شَوْقُكَ إِلَيْهِ؟

قلت له: إني أحب أمير المؤمنين (ع)، وأحب أن أزوره.

قال: فَهَلْ تَعْرِفُ فَضْلَ زِيَارَتِهِ؟

قلت: لا يابن رسول الله، فعرّفني ذلك.

قال: إِذَا أَرَدْتَ زِيَارَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)، فَاعْلَمْ أَنَّكَ زَائِرٌ عِظَامَ آدَمَ، وَبَدَنَ نُوحٍ، وَجِسْمَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع).

قلت: إن آدم هبط بسرنديب في مطلع الشمس، وزعموا أن عظامه في بيت الله الحرام، فكيف صارت عظامه بالكوفة؟

قال: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى نُوحٍ (ع) وَهُوَ فِي السَّفِينَةِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعاً[11]، فَطَافَ كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَزَلَ فِي الْمَاءِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، فَاسْتَخْرَجَ تَابُوتاً فِيهِ عِظَامُ آدَمَ، فَحَمَلَ التَّابُوتَ فِي جَوْفِ السَّفِينَةِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَطُوفَ، ثُمَّ وَرَدَ إِلَى بَابِ الْكُوفَةِ فِي وَسَطِ مَسْجِدِهَا، فَفِيهَا قَالَ اللَّهُ لِلْأَرْضِ:‏ ابْلَعِي ماءَكِ‏، فَبَلَعَتْ مَاءَهَا مِنْ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ كَمَا بَدَأَ الْمَاءُ مِنْ مَسْجِدِهَا، وَتَفَرَّقَ الْجَمْعُ الَّذِي كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، فَأَخَذَ نُوحٌ التَّابُوتَ فَدَفَنَهُ بِالْغَرِيِّ وَهُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي‏ كَلَّمَ اللَّهُ‏ عَلَيْهِ‏ مُوسى‏ تَكْلِيماً، وَقَدَّسَ عَلَيْهِ عِيسَى تَقْدِيساً، وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ‏ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ مُحَمَّداً حَبِيباً، وَجَعَلَهُ لِلنَّبِيِّينَ مَسْكَناً، وَاللَّهِ مَا سَكَنَ فِيهِ أَحَدٌ بَعْدَ آبَائِهِ الطَّاهِرِينَ، آدَمَ وَنُوحٍ أَكْرَمُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)، فَإِذَا أَرَدْتَ جَانِبَ النَّجَفِ، فَزُرْ عِظَامَ آدَمَ وبَدَنَ نُوحٍ وَجِسْمَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع)، فَإِنَّكَ زَائِرٌ الْآبَاءَ الْأَوَّلِينَ وَمُحَمَّداً (ص) خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَعَلِيّاً سَيِّدَ الْوَصِيِّينَ، فَإِنَّ زَائِرَهُ تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ عِنْدَ دَعْوَتِهِ فَلَا تَكُنْ عَنِ الْخَيْرِ نَوَّاماً[12].

بالرغم من أن شوق المفضّل بن عمر لزيارة قبر أمير المؤمنين (ع) كبير، إلا أن الإمام الصادق (ع) يفتح له أبواب المعرفة لبيان فضل ما يقوم به من عمل ونتائج ذلك في الآخرة، وأهمها أن زائر أمير المؤمنين (ع) تُفتح له أبواب السماء عند دعوته، وهذه خاصية مهمة، يأمل الداعون في لحظات دعائهم أن يتلقّوا الإجابة، وفي ذلك خير كثير، ينبّه الإمامُ المفضلَ إلى هذا الجانب كي لا يغفل عنه بالنوم أو غيره.

النبي (ص) يخلصه من ذنوبه

5- كامل الزيارات: حدثني علي بن الحسين، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن عثمان بن عيسى، عن المعلى بن أبي شهاب، عن أبي عبد الله (ع)، قال‏:

قَالَ الْحَسَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ (ص): يَا أَبَتِ، مَا جَزَاءُ مَنْ زَارَكَ؟

قَالَ: بُنَيَّ، مَنْ زَارَنِي حَيّاً أَوْ مَيِّتاً، أَوْ زَارَ أَبَاكَ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَزُورَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأُخَلِّصَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ[13].

لا يفوت النبي (ص) دائماً أن يذكّر بفضل الإمام علي (ع)، ويقرنه بشخصه الشريف، فمع أن سؤال الإمام الحسن (ع) عن زيارة النبي (ص)، إلا أنه أردف معها بيان أن زيارة أمير المؤمنين هي موجبة أيضاً للفضل العظيم الذي سيذكره، وهو استحقاق أن يزوره النبي (ص) يوم القيامة، وليس تلك الزيارة منه (ص) للإستئناس وحسب، فهي زيارة في أصعب يوم وهو القيامة المليء بالمصاعب، يوم يتطلّع فيه المرء أن يجوز السراط دون أن يأخذه الله تعالى بتبعاته وذنوبه ليتجاوز عنه، وهذا ما تحقّقه زيارة النبي (ص) لزائر أمير المؤمنين (ع)، فهو يخلّصه من ذنوبه جميعها، ويجوز مخفاً فائزاً من دون كدر.

ما أتاه مكروب إلا نفّس كربته

6- فرحة الغري: بالإسناد عنه، عن محمد، عن عمه، قال: حدثني محمد بن زيد الخزاعي، عن عبيد بن الحسن البزاز، قال: أخبرني حسن بن مغيرة، عن داود بن فرقد، قال:‏ قال لي أبو عبد الله (ع):‏

إِنَّ إِلَى جَانِبِ كُوفَانَ لَقَبْراً، مَا أَتَاهُ مَكْرُوبٌ فَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، إِلَّا قَضَى اللَّهُ حَاجَتَهُ، وَنَفَّسَ كُرْبَتَهُ.

قال: قلت: قبر الحسين (ع)؟

قال: فقال برأسه: لا. 

فقلت: قبر أمير المؤمنين (ع)؟ فقال برأسه: نعم[14]‏.

لقد ارتبطت زيارة الإمام الحسين (ع) بقضاء الحوائج وتنفيس الكربات لكل مهموم ومحزون، وقد كان ذلك راسخاً في وعي المجتمع الشيعي، إضافة إلى أن كربلاء موضع قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) يصدق عليها أنها بجانب الكوفة، ولذلك انسبق ذهن داود بن فرقد إلى أن المقصود هو قبر الإمام الحسين (ع) عندما ذكر الإمام تلك المواصفات.

إلا أن الإمام نفى أن يكون قبر الإمام الحسين (ع) هو المقصود مشيراً برأسه (لا)، وأكد برأسه أيضاً أن المقصود هو قبر أمير المؤمنين (ع)، وهذا النفي ليس نفي المعاني المذكورة عن ثبوتها لزائر الإمام الحسين (ع)، فقد تواترت الروايات بهذه المعاني، ولكن الإمام أراد أن يحدّد أن ذكره لفضل هذا القبر في هذا الكلام تحديداً هو قبر أمير المؤمنين (ع)، وقد نقرأ من عبارة أنه قال (لا) و(نعم) برأسه الشريف، أي أنه اكتفى بالإشارة الدالة على النفي والإيجاب كي لا يقرأ أحد أن هناك نفياً مصرحاً به عن زيارة الإمام الحسين (ع)، فيفهم على غير مراده، والله أعلم.

ثواب الشهداء والغفران

7- أمالي الطوسي: أخبرنا محمد بن محمد، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد (رحمه الله)، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ـ حيث جاء فيه ـ:

مَنْ زَارَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَارِفاً بِحَقِّهِ، غَيْرَ مُتَجَبِّرٍ، وَلَا مُتَكَبِّرٍ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ مِائَةِ أَلْفِ شَهِيدٍ، وَغَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَبُعِثَ مِنَ‏ الْآمِنِينَ، وَهُوِّنَ عَلَيْهِ الْحِسَابُ، وَاسْتَقْبَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا انْصَرَفَ شَيَّعَتْهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَإِنْ مَرِضَ عَادُوهُ، وَإِنْ مَاتَ تَبِعُوهُ بِالاسْتِغْفَارِ إِلَى قَبْرِهِ[15].

يسوق الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ثواباً عظيماً لمن زار الإمام أمير المؤمنين (ع)، بينما نجد في روايات أخرى تذكر ثواباً أقل، وهذا راجع في مداه إلى الزائر نفسه، فإن كان عارفاً بحق الإمام في الإعتقاد بإمامته وحقه كإمام منصّب من قبل الله تعالى تجب طاعته على كل الخلق، وعرف فضله وفضائله، مع ما تحلّى به الزائر من صفات ومنها الإخلاص والتواضع والتذلل، ويبتعد عن التجبّر والتكبّر، فإن كان الزائر كذلك استحق من الله تعالى أعظم الثواب وأرقاه، وكلّما زادت معرفته وخلوصه زاد ثوابه، كما أشارت العديد من الروايات بأن العبادة مع المعرفة أفضل عند الله تعالى من العبادة بدونها.

ولبيان الثواب الواسع جهة أخرى، وهي أن الإمام (ع) عندما يذكر ثواب الزيارة بحجة أو عمرة على سبيل المثال، فلا يذكره على سبيل الحصر وامتناع الأكثر، بل هو يشير إلى جانب واحد في هذا المقام أو ذاك، وقد يشير إلى مقام آخر في موضع آخر، وهذا استفدناه من بعض الروايات التي يستغرب فيها الراوي الثواب، فيقوم الإمام بذكر الثواب الأكثر ويؤكده للراوي.

لا يزوره إلا الصّدّيقون

8- كامل الزيارات: حدثني الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن شجرة، عن سلام الجعفي، عن عبد الله بن محمد الصنعاني، عن أبي جعفر (ع)، قال‏:

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) إِذَا دَخَلَ الْحُسَيْنُ (ع) جَذَبَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع): أَمْسِكْهُ، ثُمَّ يَقَعُ عَلَيْهِ فَيُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي، يَقُولُ: يَا أَبَتِ، لِمَ تَبْكِي؟

فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ أُقَبِّلُ مَوْضِعَ السُّيُوفِ مِنْكَ.

قَالَ: يَا أَبَتِ، وَأُقْتَلُ؟

قَالَ: إِي وَاللَّهِ وَأَبُوكَ وَأَخُوكَ وَأَنْتَ.

قَالَ: يَا أَبَتِ، فَمَصَارِعُنَا شَتَّى؟

قَالَ: نَعَمْ يَا بُنَيَّ.

قَالَ: فَمَنْ يَزُورُنَا مِنْ أُمَّتِكَ؟

قَالَ: لَا يَزُورُنِي وَيَزُورُ أَبَاكَ وَأَخَاكَ وَأَنْتَ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ‏ مِنْ‏ أُمَّتِي[16]‏.

الصّدّيقون المتمحضون بالصدق في الإيمان بالله والولاية الذين قال عنهم الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}[17]، هم الذين يعتنون بشدّ الرحال لزيارة النبي (ص) وأمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام)، لأنهم عرفوا أن زيارتهم هي علامة ولاء وتجديد عهد واستدامة إيمان.

ولعله يتبادر للذهن أن زوراهم كثير حتى من خارج دائرة الولاية، فالواقع مغاير عن مضمون الحديث، إلا أن المقصود يمكن أن يكون (لا يزورني) حق الزيارة والتي يشترط فيها أن يكون عارفاً بحقه معترفاً بموضعيته من الولاية الإلهية، ففي حق غيرهم لا تحسب زيارة أصلاً.

من أتاه ماشياً

9- الوسائل: محمد بن الحسن، بإسناده عن محمد بن أحمد بن داود، عن محمد بن همام، قال: وجدت في كتاب كتبه ببغداد جعفر بن محمد، قال: حدثنا محمد بن الحسن الرازي، عن الحسين بن إسماعيل الصيمري،‏ عن أبي عبد الله (ع) قال‏:

مَنْ زَارَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) مَاشِياً، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَجَّةً، وَعُمْرَةً، فَإِنْ رَجَعَ مَاشِياً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ[18].

إن مرويات أهل البيت (ع) وسلوكهم يبيّن أن المشي في العبادة له زيادة فضل، فأن يختار الزائر طريقه للزيارة مشياً على قدميه، فهذا دليل زيادة اعتبار منه للمزور، وهذه المشقّة منظورة من قبل الله تعالى، فمن سعى نحو ضريحه الطاهر ماشياً بأي مسافة كانت بعُدت أو قصُرت فله بمقدار خطواته التي خطاها حجة وعمرة، ولا يقف الثواب عند هذا الحد، بل أن طريق العودة بعد الإنتهاء من الزيارة له فضل وبركات، وهي أكثر مما حسب له في ذهابه، فله بكل خطوة حجيتن وعمرتين، فبركات الله ورحمته تحفّ بالزائر وترعاه من بدء خروجه من منزله وحتى بعد عودته إليه.

فضل زيارته على زيارة الحسين

10- الوسائل: عبد الكريم بن أحمد بن طاوس، في كتاب فرحة الغري، بالإسناد الآتي‏: عن محمد بن أحمد بن داود، عن محمد بن بكران النقاش، عن الحسين بن محمد المالكي، عن أحمد بن هلال، عن أبي شعيب الخراساني، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (ع): أيما أفضل زيارة قبر أمير المؤمنين (ع) أو زيارة الحسين (ع)‏؟

قال: إِنَّ الْحُسَيْنَ قُتِلَ مَكْرُوباً، فَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا يَأْتِيَهُ مَكْرُوبٌ إِلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ، وَفَضْلُ زِيَارَةِ قَبْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) عَلَى زِيَارَةِ الْحُسَيْنِ، كَفَضْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) عَلَى الْحُسَيْنِ (ع).

ثم قال لي: أَيْنَ تَسْكُنُ؟

قلت: الكوفة.

فقال: إِنَّ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ بَيْتُ نُوحٍ، لَوْ دَخَلَهُ رَجُلٌ مِائَةَ مَرَّةٍ، لَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ مَغْفِرَةٍ، أَمَا إِنَّ فِيهِ‏ دَعْوَةَ نُوحٍ (ع) حَيْثُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً.

قلت: من عنى بوالديّ؟

قال: آدَمَ وَحَوَّاءَ[19].

بكل الموروث الروائي الضخم المتوافر عندنا في فضل زيارة الإمام الحسين (ع)، إلا أن فضل زيارة أبيه أمير المؤمنين (ع) أفضل، لما له من الفضل عليه، كما قال الإمام الحسين (ع): (أبي خير منّي)[20]، وقد ينسبق للذهن ماهي تلك الأفضلية التي تتفوّق على الزيارة التي أرشد أهل البيت (ع) شيعتهم بأن يدمنوها، حتى وضعوا لها مواسم تستوعب سنتهم وكل أيامهم، ليكونوا على اتصال دائم، وهي الزيارة الحسينية، ما لم نره في زيارة الإمام أمير المؤمنين (ع)؟

 إن هذا الأمر يحتاج إلى البحث في عدة جوانب، ولكن نشير مجرد الإشارة بما يناسب المقام، وهو أن التفاضل قد يكون في صورته الأولية، ففضل الزيارة بفضل المزور، وهنا (فضل علي على الحسين (ع) ثابت، فتكون زيارة الأفضل أفضل، كما مر في رواية سابقة. وقد يكون التفاضل بالنظر لواقع مَواطن الزيارة، فيكون التوجيه لمن يزوره القلّة أو لمن لا يعرفه الأكثر، ليتوجّه الناس إليه، كما في زيارة الإمام الرضا (ع) وزيارة الإمام الحسين (ع) في بعض الأزمنة، فكانت زيارة الرضا أفضل من هذه الجهة. وقد يكون التفاضل بالنسبة لمستقبل الأمة ونهضتها كما هي في زيارة الإمام الحسين (ع) المرتبطة بواقعة كربلاء ومعطياتها الأبدية واتصالها بالظهور المقدّس للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، فتكون الزيارة بالنسبة لكافة الناس أفضل، مع إضافة فضل استمرارية التعلّق بها لتكون القيم الحسينية حاضرة في وعي الأمة. كما أن الأفضلية قد تكون في حين آخر ناظرة للخصوصية في الزيارة ذاتها وبجموع ما تعطيه من أبعاد، مثل: (الزيارة، التوسل، المواساة والندبة) وماشابه ذلك.

وهذه الأبعاد بحاجة لأبحاث تأصيلية واستطراد في التوضيح ليس هذا موضعه، نسأل الله أن نوفق إليه في ما ياتي من الزمان.

البقعة البيضاء تلمع نوراً

11- فرحة الغري: ذكر حسن بن الحسين بن طحال المقدادي،‏ أن زين العابدين (ع) ورد إلى الكوفة، ودخل مسجدها وبه أبو حمزة الثمالي، وكان من زهاد أهل الكوفة ومشايخها، فصلى ركعتين، قال أبو حمزة: فما سمعت أطيب من لهجته، فدنوت منه لأسمع ما يقول، فسمعته يقول‏:

إِلَهِي إِنْ كَانَ قَدْ عَصَيْتُكَ، فَإِنِّي قَدْ أَطَعْتُكَ فِي أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ، الْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّتِكَ مَنّاً مِنْكَ عَلَيَّ، لَا مَنّاً مِنِّي عَلَيْكَ، وَالدُّعَاءُ مَعْرُوفٌ.

ثم نهض، قال أبو حمزة: فتبعته إلى مناخ الكوفة، فوجدت عبداً أسود معه نجيب وناقة، فقلت: ياأسود، من الرجل؟ فقال: أو تخفى عليك شمائله؟ هو علي بن الحسين. قال أبو حمزة: فأكببت على قدميه أقبلها، فرفع رأسي بيده، وقال‏:

لَا يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّمَا يَكُونُ السُّجُودُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

قلت: يا ابن رسول الله، ما أقدمك إلينا؟

قَالَ: مَا رَأَيْتَ، وَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ لَأَتَوْهُ وَلَوْ حَبْواً، هَلْ لَكَ أَنْ تَزُورَ مَعِي قَبْرَ جَدِّي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع)؟

قلت: أجل، فسرت في ظل ناقته يحدثني، حتى أتينا الغريين، وهي بقعة بيضاء تلمع نوراً، فنزل عن ناقته ومرغ خديه عليها، وقال‏:

يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَذَا قَبْرُ جَدِّي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع).

ثم زاره بزيارة أولها: السلام على اسم الله الرضي، ونور وجهه المضيء، ثم ودعه ومضى إلى المدينة، ورجعت أنا إلى الكوفة[21].

إن كلمة الإمام زين العابدين (ع) لو عرف الناس مافيه من الفضل، لأتوه ولوحبواً، تعطينا دلالة على أن فضل زيارة أمير المؤمنين (ع) فوق ما نعلم بل فوق ما نتصوّر، فمن أنهكه المرض وأقعده عن أداء حاجاته لن يكلّف نفسه بالحبو إلا لأمر شديد الأهمية وفي حال عدم وجود من يعينه عليه، هذا مع العلم أن ما سوف يقوم به قد يكون حبو مسافة بسيطة جداً، فمعرفة فضل زيارة الإمام علي (ع) يمكنها أن تقنع المقعد المنهك أن إتيانه من موطنه إلى موضع قبره، ضرورة لابد أن يصل إليها، وهذا تصوير بليغ يلامس الفهم العام لكافة الناس الذين يشعرون بحالة المريض المقعد.

ثواب زيارته يوم الغدير

12- قال في مصباح المتهجد: روى محمد بن أبي نصر، قال: كنّا عند الرضا (ع)، والمجلس غاصّ بأهله، فتذاكروا يوم الغدير، فأنكره بعض الناس.

فقال الرِّضَا (ع): حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ (ع)، قَالَ: إِنَّ يَوْمَ الْغَدِيرِ فِي السَّمَاءِ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: يَا ابْنَ أَبِي نَصْرٍ، أَيْنَ مَا كُنْتَ فَاحْضُرْ يَوْمَ الْغَدِيرِ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَمُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ ذُنُوبَ سِتِّينَ سَنَةً، وَيُعْتِقُ مِنَ النَّارِ ضِعْفَ مَا أَعْتَقَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَلَدِرْهَمٌ‏ فِيهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِإِخْوَانِكَ الْعَارِفِينَ، فَأَفْضِلْ عَلَى إِخْوَانِكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَسُرَّ فِيهِ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ[22].

وقد ذُكر للإمام علي (ع) زيارات في بعض الأيام المحدّدة، كيوم الجمعة عن بُعد، وهي شاملة لجميع المعصومين، وهي ما ذكرها مصباح المتهجد عن الإمام الصادق (ع)، كما أن ابن طاووس ذكر في جمال الأسبوع أن يوم الأحد يوم أمير المؤمنين (ع) وذكر زيارة خاصة، برواية عن من شاهد صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف) وهو يزوره بها، في اليقظة لا في المنام، وللعلامة المجلسي رأي وهو أن: "الإتيان بالأعمال الحسنة في الأزمان الشريفة، موجب لمزيد المثوبة، فزيارته ـ أي أمير المؤمنين (ع) ـ صلوات الله عليه في سائر الأيام الشريفة أفضل، لا سيما الأيام التي لها اختصاص به، وظهرت له فيها كرامة وفضيلة ومنقبة: كيوم ولادته، وهو على المشهور ثالث عشر رجب... وليلة مبيته على فراش النبي (ص) وهي أول ليلة من ربيع الأول... ويوم فتح بدر على يديه، وهو السابع عشر من شهر رمضان... ويوم مواساته في غزوة أحد، وهو سابع عشر شوّال... ويوم فتح خيبر على يديه، وهو السابع والعشرين من رجب"[23].. إلى آخر تلك الأيام الشريفة.

ومن أعظم تلك الأيام هو يوم الغدير عيد الله الأعظم، حيث تتجلّى رحمة الله تعالى في ذلك اليوم لزائريه، حتى أن الله تعالى يعتق فيه ضعف ما يعتق في جميع أيام شهر رمضان، وضعف ما أعتق في ليلة القدر الشريفة، وضعف ما أعتق في ليلة الفطر المباركة، فحري بالمؤمن أن يستبق إلى هذا الخير العميم.

ولعل التعبير بأنه يغفر ذنوب ستين سنة لكل (مؤمن ومؤمنة) وكل (مسلم ومسلمة)، أن الرحمة شاملة لكافة المعتقدين بالولاية من ضعاف الإيمان إلى أقويائه، أو أنها شاملة للمؤمن الموالي وغير الموالي، كما في غفران الذنوب في يوم عرفة في الحج، وهذا ليس ببعيد عن رحمة الله تعالى، فمن جاء قبر أمير المؤمنين (ع) متواضعاً غير مستكبر، فالرحمة تشمله، لعله يهتدي بنوره (ع).

تارك زيارته

13-المقنعة: قَالَ الصَّادِقُ (ع):‏

مَنْ‏ تَرَكَ‏ زِيَارَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)، لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ.

إن نظر الله تعالى هو عنايته بالمؤمن، سواء في الدنيا عبر التوفيق والتسديد، أو في الآخرة عبر المغفرة وعدم الأخذ بما جنته يداه، فمن يترك زيارة أمير المؤمنين (ع) فقد حرم نفسه من النظر الإلهي له.

 

نفحات الاشتياق إلى حضرة علي (ع)

كل هذا الثواب، ثواب الشهداء الرفيع يوم القيامة، وثواب الحجّاج والمعتمرين، الذين يخرجون كما ولدتهم أمهاتهم بلا ذنب ولا أثر لزلّة مسجلّة في سجلاتهم، بل وأضعاف ثواب شهر رمضان وليلة القدر، وكذا ما فيها من قضاء الحوائج والشفاء من العاهات، وكل تلك البركات، كلها كي يستجمع الإنسان نفسه، ويتخذ قراره، وينطلق انطلاقة مشوقة ناحية موضع قبر أمير المؤمنين (ع)، حيث يسبقه قلبه إلى حضرة القدس الشريفة، لتعانق روحه قبره المقدّس قبل وصول بدنه إليه، وهناك يبدأ الزائر باستلهام القبس النوراني، ويرفعه مشعلاً ليضيء الحياة التي سربلها الظلام عتمة، وكدّرتها نحوسة الآثام والخطايا، ليبدأ درباً جديداً مضيئاً بضياء الهدى ونور العلم والاستقامة.

بوعي هذا المخطّط الربّاني لزيارة المعصومين (ع) نعرف أن زيارة الإمام علي (ع) هي مفتاح فاعل ونافذ من مفاتيح التغيير، الذي تفتح منه أبواب الهدى والصلاح، لكل من لجأ وتمسّك بضريحه الطاهر الماثل على قبره الشريف في ظهر الكوفة في النجف الأشرف.

وتمثلاً لهذه الغاية الكبرى، يقوم الزائر بترتيب أوضاعه وتهيئة ما يلزم تهيئته، كالاستعداد النفسي، والنية الخالصة، والتطهّر والتنظّف والتطيّب، وهي المروية في آداب الزيارة، كل ذلك يمثل استعداداً قلبياً، واستعداداً عملياً، لدخول التجربة التربوية الفذّة.

فهذا هو الإمام الصادق (ع) يعلّمنا كيف نُقدم على هذه العبادة العظيمة، فنتهيأ لها، ونقدّم الدعوات المعبّرة عن نيّاتنا ومقاصدنا.

رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ أَنَّهُ قَالَ:‏ سَأَلْتُ الصَّادِقَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): كَيْفَ تَزُورُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)؟

فَقَالَ: يَاصَفْوَانُ إِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ، فَاغْتَسِلْ وَالْبَسْ ثَوْبَيْنِ طَاهِرَيْنِ، وَنَلْ شَيْئاً مِنَ‏ الطِّيبِ، فَإِنْ لَمْ تَنَلْ أَجْزَأَكَ، فَإِذَا خَرَجْتَ مِنْ مَنْزِلِكَ فَقُلْ:

اللَّهُمَ‏ إِنِّي‏ خَرَجْتُ‏ مِنْ‏ مَنْزِلِي‏ أَبْغِي‏ فَضْلَكَ،‏ وَأَزُورُ وَصِيَ‏ نَبِيِّكَ‏، صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِمَا، اللَّهُمَّ فَيَسِّرْ لِي ذَلِكَ، وَسَبِّبِ الْمَزَارَ لَهُ، وَاخْلُفْنِي فِي عَاقِبَتِي، وَحُزَانَتِي بِأَحْسَنِ الْخِلَافَةِ، يَا ارْحَمَ الرَّاحِمِينَ[24].

إن من يبتغي فضل الله تعالى الواسع، فعليه أن يشدّ الرحال إلى قبر أمير المؤمنين زائراً، ويسأل الله أن ييسّر له أموره ويهيئ له الأسباب. ولا يقتصر حصول ذلك الخير العميم على شد الرحال، بل على المؤمن أن يديم زيارته عن بُعدٍ من أي مكان، حيث يتوجّه بقلبه ناحية القبر ويتلو الكلمات النورانية للزيارة المعصومية المباركة، ليحصل على ما يوفق له من خيراتها.

لقد كان من الذين عرفوا سمو وعظمة زيارة أمير المؤمنين (ع)، واستأنسوا بها، هو صفوان بن مهران، الذي لازم قبر أمير المؤمنين عشرين عاماً، يتعبد عنده ويزوره، وصفوان هذا شهدت له كتب الرجال بالتوثيق، وقد نقل عن أهل البيت (ع) بشكل مباشر، فكان أكثر رواياته عن الإمام الصادق (ع)، وقد كان في بعض أساليبه في الرواية، أنه يسأل الإمام بتفاصيل الأعمال، يستثمر وجود الإمام لزيادة المعرفة والإستزادة من الفضل، فإذا قال أنه لبث عند قبر أمير المؤمنين هذه المدة الطويلة، فهذا يعني أنه سمع الكثير وودعى الكثير من الفضل في ذلك.

فقد ورد في كامل الزيارات:

عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ مَوْضِعِ قَبْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)، قَالَ: فَوَصَفَ لِي مَوْضِعَهُ حَيْثُ دَكَادِكِ الْمِيلِ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَصَلَّيْتُ عِنْدَهُ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) مِنْ قَابِلٍ، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَهَابِي وَصَلَاتِي عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَصَبْتَ. فَمَكَثْتُ عِشْرِينَ سَنَةً أُصَلِّي عِنْدَهُ[25].

ويروي لنا أبو عامر واعظ الحجاز مادار بينه وبين الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) حول عظمة من يعمر مشهد أمير المؤمنين (ع) والأئمة من ولده (ع)، وفضل تعاهدها بالزيارة بين حين وآخر، ويقول:

"أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع)، فَقُلْتُ لَهُ:‏ مَا لِمَنْ زَارَ قَبْرَهُ؟ يَعْنِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (‏ع)، وعَمَرَ تُرْبَتَهُ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا عَامِرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ (ع)، أَنَّ النَّبِيَّ (ص) قَالَ لَهُ: واللَّهِ لَتُقْتَلَنَّ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وتُدْفَنُ بِهَا.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لِمَنْ زَارَ قُبُورَنَا وعَمَرَهَا وتَعَاهَدَهَا؟ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ‏ قَبْرَكَ وقُبُورَ وُلْدِكَ بِقَاعاً مِنْ بِقَاعِ الْجَنَّةِ، وعَرْصَةً مِنْ عَرَصَاتِهَا، وإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ قُلُوبَ نُجَبَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وصَفْوَةٍ مِنْ عِبَادِهِ‏ تَحِنُّ إِلَيْكُمْ، وتَحْتَمِلُ الْمَذَلَّةَ والْأَذَى فِيكُمْ، فَيَعْمُرُونَ قُبُورَكُمْ ويُكْثِرُونَ زِيَارَتَهَا تَقَرُّباً مِنْهُمْ إِلَى اللَّهِ، ومَوَدَّةً مِنْهُمْ لِرَسُولِهِ، أُولَئِكَ يَاعَلِيُّ، الْمَخْصُوصُونَ بِشَفَاعَتِي، والْوَارِدُونَ حَوْضِي، وهُمْ زُوَّارِي غَداً فِي الْجَنَّةِ.

يَاعَلِيُّ، مَنْ عَمَرَ قُبُورَكُمْ وتَعَاهَدَهَا، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَى بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ومَنْ زَارَ قُبُورَكُمْ عَدْلُ ذَلِكَ، لَهُ ثَوَابُ سَبْعِينَ حَجَّةً بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وخَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ زِيَارَتِكُمْ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَأَبْشِرْ وبَشِّرْ أَوْلِيَاءَكَ ومُحِبِّيكَ مِنَ النَّعِيمِ وقُرَّةِ الْعَيْنِ، بِمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ولَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ولَكِنْ حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ يُعَيِّرُونَ زُوَّارَ قُبُورِكُمْ بِزِيَارَتِكُمْ، كَمَا تُعَيَّرُ الزَّانِيَةُ بِزِنَاهَا، أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي، لَا أَنَالَهُمُ اللَّهُ شَفَاعَتِي،‏ ولَا يَرِدُونَ حَوْضِي"[26].

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] - جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج1، ص20

[2] - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج‏20، ص: 316

[3] - الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج1، ص34

[4] - الأمالي، الشيخ الصدوق، ص558

[5] - المصدر نفسه، ص89

[6] - بحار الأنوار، ج33، ص474

[7] - فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين في النجف، ص70

[8] - كامل الزيارات، ص38

[9] - سورة النساء 80

[10] - وسائل الشيعة، ج14، ص379

[11] - أي سبعة أشواط.

[12] - كامل الزيارات، ص39

[13] - كامل الزيارات، ص39

[14] - فرحة الغري في تعيين قبرأمير المؤمنين في النجف، ص69

[15] - الأمالي، للطوسي، ص215

[16] - كامل الزيارات، ص70

[17] - سورة الحديد 19

[18] - وسائل الشيعة، ج14، ص380

[19] - وسائل الشيعة، ج14، ص382

[20] - بحار الأنوار، ج45، ص3

[21] - فرحة الغري، ص47

[22] - مصباح المتهجد، وسلاح المتعبّد، ج2، 738

[23] - بحار الأنوار، ج100، ص383

[24] - المزار، للشهيد الأول، ص30

[25] - كامل الزيارات، ص37

[26] - وسائل الشيعة، ج‏14، ص: 383

من مؤلفاتنا