السيد محمود الموسوي
www.mosawy.com
إذا مررت على واقع المسلمين اليوم في كل مكان ستجد أصداء للحراك الناهض الذي استل نوره من حركة الإمام الحسين (ع)، حيث غدت الحركة الحسينية المباركة معلماً راسخاً من معالم النهضة، وباتت المحرّك والزاد الأساس لأي شعب يريد أن يعمل للإصلاح ويسلك درب الحرية والكرامة.
إلا أن ذلك لا يعني أن تلك الحركات وذلك الحراك يبقى متّسماً بالضرورة بالسمات الحسينية بكل تفاصيلها، بل قد يصيب بعض الحراك انحراف عن مبادئ وقيم الإمام الحسين (ع)، خصوصاً أمام الإيقاع السريع لحركة السياسة وتحولاتها، وتقلبات الحياة وتبدل مواقعها وظروفها، ومن أهم ما يبتلى به المتصدون للتغيير هو الغفلة عن القيم الحسينية التي تفوّقت على المكاسب الآنية في سبيل الحصول على مكاسب الآخرة، والتي انتصرت للحفاظ على خط القيم مقابل خط المكاسب الدنيوية.
وقد حملت النهضة الحسينية معاني العزة والكرامة والحرية والحفاظ على الدين، مقابل ركوب العار الذي يمثل البحث عن المال، والسلطة، والجاه، إن ركوب العار قد تحاشاه الإمام الحسين عليه السلام ودوّن في أمره كلمة خالدة عندما قال وهو على صهوة جواده في مواجهة جيش جرّار: (الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار).
كلمة أصيلة وضع الإمام الحسين (ع) من خلالها مسألة تحاشي ركوب العار في قائمة أولويات لابد أن تشكل عقلية الحركات النهضوية، وهي أن الموت يقدّم على الإقدام على ركوب العار، فيدفع الإنسان حياته من أجل أن لا يساهم في العار ولا يؤسس له في الواقع، ولا يكون العار مستساغاً بحسب الواقع إلا إذا كان الخيار الآخر هو دخول النار، أي لمنع الإنحراف في العقيدة وفي السلوك، لأن الغاية من النهضة هي الفوز بالجنة. وهذه الكلمة تعزز خيار أن يكون الإنسان نظيفاً من أي فساد، لأنه يعمل من أجل القيم فلابد أن لا يساهم في ضرب القيم، حتى لو كان ذلك على حساب فقد مكاسب دنيوية أو مكاسب سياسية آنية.
وهنا تجلّت أهمية أن تضع الحركات قائمة أولوياتها نصب أعينها، ولابد أن تكون تلك الأولويات راسخة في وعي المجتمع ومستظهرة في ثقافته العامة، لكي لا يساهم في ركوب العار مع من فضّل الركوب.
في العادة يلجأ الطغاة إلى إلهاء الناس بالحاجيات الملحة والآنية، فيبرّزها كعناوين للمكاسب والاستحقاقات، كل ذلك في سبيل غض الطرف عن سياساته التي تؤسس لشريعة الظلم، وتشرّع الانحراف، وتدوس القيم، وتغيّب الحاجات الكبرى للأمة والمصالح العليا التي تبني مجتمع العدالة والأمن الحقيقي، وعندما لا تكون الحروف الحسينية النورانية نصب أعيننا، فإن المعادلات سوف تختلّ، والمسيرة سوف تنحرف، فيكون المنصب والكرسي بحد ذاته عنواناً للأستحقاق، ويكون الاسم عوضاً عن المسمّى، وتكون المنافع الشخصية مقدّمة على مصالح الأمة، ويكون مستقبل الفرد والجماعة أولى من مستقبل الدين وقيم الدين، فتداس كل القيم الربانية في ذلك الطريق، وهذا أصدق مصاديق (ركوب العار) بل والمساهمة فيه والتأسيس لشرعنته.
إن عملية ركوب العار أخطر من العار نفسه، لأن من يركبها من المنتمين إلى الإمام الحسين (ع) والحاملين رايته، إنما يصل بهم الأمر إلى شرعنة العار ولو من حيث لا يشعرون، وهذه هي الطامة الكبرى. فهو في هذه العملية يمر بعدة مراحل، هي:
1/ مرحلة الإنخداع بالعار والمشاريع المشابهة، تحت مسمّى دفع الضرر والإضرار الموهوم، فالشيطان وكذلك من يتولاه من البشر لا يدعون مشاريعهم ليرعاها الآخرون، إنما هم يتولونها ويصرون عليها لكي يقنعون المتصدين بأنهم أمام مفترق طريق، فإما الضرر (العاجل) وإما دفع الضرر (الموهوم)، فيكون الخيار هو المكسب (الآني).
2/ ثم مرحلة المساهمة في العار، ليثبت ولائه لهذا المشروع، ولكي يعطي رسائل الثقة (لأهل العار) فهو يتمسّك بكل ما أوتي من قوة بهذا الخيار، ليصبح استراتيجية مستدامة لتحركه، لا ظرفاً طارئاً.
3/ ثم المرحلة الأخطر وهي التبشير للعار باعتباره خير وصلاح، فبعد أن تتطبع العملية الإصلاحية بهذه المنهجية التي يصعب عليها التراجع عنها، ولكي تثبت صلاح خيارها، تلجأ إلى التبشير لهذا الخيار وتوسعة رقعته البشرية، لتحشوه في عقول الناس، فيصبح مقياساً للتفاضل بين الناس، وبين الخيارات، وبين المنهجيات.
تأتي ذكرى كربلاء الحسين (عليه السلام) في كل عام، لا لتكون مناراً لبناء الشخص وحسب، بل لابد أن تكون ذكرى تهزّ وعي المجتمع، وتؤثّر في الحراك السياسي من خلال قادته والمتصدين له، فتمنع خطوات الشيطان من أن تأخذ فعلها في العقل البشري. ولا يكون ذلك إلا بالتعاطي القيمي مع ثورة الإمام الحسين (ع)، والدراسة الجادة لها، والامتثال الخالص لما تدعوا له، فلا تكفي الشعارات وحدها، ولا يجدي محاربة بعض الشعائر تذرعاً بأنها تحجب قيم الإمام أو تشوش صورة الحركة الحسينية المقدسة، فالإنتماء الحقيقي يكمن في الامتثال، على الأخص في المواقف الكبرى التي تهم الدين ومصالح الأمة الإسلامية.
فلابد بين فترة وأخرى من وقفة مراجعة لكل المواقف وكل المعاهدات والمواثيق التي أبرمت أو سوف تبرم، وتضع في حساباتها القيم الحسينية التي لا حياد عنها، حتى لو كان ذلك على حساب المناصب، وحتى لو سبب ذلك عزلة في السياسة أو الاجتماع فإن ذلك (أولى من ركوب العار).
ـــــ
نشر في مجلة ذكرى التي تصدر عن مؤسسة أهل الكساء في العدد الثالث 1432هـ بمناسبة عاشوراء.
مقالات ذات صلة:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 49029 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35949 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33874 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 32123 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28589 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20507 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 20036 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19918 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19851 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15918 مرُة