نصيحة محمد بن الحنفية، الظروف والملابسات

السيد محمود الموسويIMG 20210215 061503

 يخطئ من يضع نصيحة محمد بن الحنفية (رضوان الله عليه) لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) موضع سائر المقترحات التي عُرضت على الإمام الحسين (عليه السلام) في المدينة أو في مكة قُبيل خروجه إلى العراق متوجهاً نحو كربلاء التي سيكون فيها شهادته الدامية.

فإن ظروف نصيحة محمد بن الحنفية تختلف اختلافاً كبيراً، بسبب شخص محمد، وبسبب السياق التاريخي للحدث نفسه.

فإننا إن أردنا معرفة حقيقة الأمر أو تقديم رؤية تحليلية للحدث، فلابد أن نرجع إلى ثوابت نتكئ عليها في تحليلنا، فإن القراءة لابد أن تنطلق من التأسيسات إلى التفريعات، ومن الأخبار القوية إلى الأقل قوة، ولا تكون القراءة معاكسة لهذا المنهج بأن نحكّم الأخبار الضعيفة على الأخبار القوية، وهذا ما يحصل للبعض عند تقديم قراءة تحليلية للتاريخ، ولذلك يتنكّب الطريق ويتعثر في الرؤية.

لقد قُدّمت العديد من القراءات في شخصية محمد بن الإمام علي (عليه السلام) المعروف بابن الحنفية، ولكننا نعرض مثالاً حول ما أثير عن موقفه في خروج الإمام الحسين (ع) من المدينة إلى العراق، والذي يعرض التاريخ أنه كان ممن قدّم النصح للإمام الحسين (ع) بعدم التوجّه إلى كربلاء، والابتعاد عن الأمصار أو اختيار مكة أو اليمن.

وقبل إلفات النظر للحدث نفسه لابد أن نضع تأسيسات مهمة في شخصية محمد بن الحنفية لكي تُحكم قراءتنا إحكاماً موافقاً لها، وليس العكس، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر منها ما يلي:

أولاً: أن محمد بن الحنفية يحمل شهادة عظيمة من أبيه الإمام علي (عليه السلام) بأنه يأبى أن يُعصى الله عز وجل، فقد ورد عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال، كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: ان المحامدة تأبى‏ أن يعصى اللّه عز وجل.

قلت: ومن المحامدة؟ قال: محمد بن جعفر، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد ابن أبي حذيفة، ومحمد بن أمير المؤمنين عليه السّلام‏... (رجال الكشيج1، ص286).

ثانياً: قد جاء في كتاب الكافي للكليني عن الإمام الحسن (ع) في حديث، قوله لأخيه محمد: (يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ أَبِيكَ فِيكَ؟ قَالَ بَلَى، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَاكَ (ع) يَقُولُ يَوْمَ الْبَصْرَةِ مَنْ أَحَبَّ أَنْ‏ يَبَرَّنِي‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَبَرَّ مُحَمَّداً وَلَدِي‏). ج1، ص301.

ثالثاً: أن الإمام الباقر (عليه السلام) أعطانا حقيقة واضحة أكيدة، وهي أن محمد بن الحنفية لم يعارض الإمام الحسين (ع) في أمر مطلقاً، وهذا مفاد ما رواه في المناقب عن الإمام الْبَاقِرُ (عليه السلام) قَالَ:‏ مَا تَكَلَّمَ‏ الْحُسَيْنُ‏ بَيْنَ‏ يَدَيِ الْحَسَنِ إِعْظَاماً لَهُ، وَلَا تَكَلَّمَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ إِعْظَاماً لَهُ).

فكما أن الإمام الحسين (ع) ما كان ليتكلم أي ليقول رأياً مقابلاً للإمام الحسن (عليه السلام)، فإن محمد بن علي (عليه السلام) لم يكن ليبدي رأياً مخالفاً لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، وذلك نابع من درجة التعظيم التي يؤمن بها محمد.

 يكفينا هذان الشاهدان كتأسيس لمعرفة من هو محمد بن الحنفية، والذي على إثره ومساقه ننتقل إلى مرويّات التاريخ الملتبس، والذي كتب بأقلام متعدّدة الأغراض والمآرب، فمنها القلم المخلص الصادق، ومنها القلم المبغض المعاند، ومنها ما يتخلله الاشتباه واللبس، سواء تدويناً أو نقلاً أو تأويلاً.

ولا يفوتنا أن نذكر ما قد وقع فيه بعض المشتبهين في قراءتهم لموقف محمد بن الحنفية في تفسير عبارة (النصيحة)، فساق الاعتراض بأنه كيف يمكن لغير المعصوم ان ينصح المعصوم، وهو اشتباه محض لم يلتفت إلى معنى النصيحة في حقيقتها، واعتمد المعنى العرفي للنصيحة وما يفهم منها في هذا الزمان، إذ أن النصيحة في حقيقتها هي الإخلاص في القول والفعل، وهي ضد الغش، أي أن محمد بن الحنفية كان يقدّم ما وصل إليه علمه وفهمه، صادقاً في ذلك كل الصدق، ولكن الإمام فوق علمه وفهمه، لذلك فإنه يسمع منه ثم يخبره بالحقائق التي لا يطّلع عليها إلا الإمام المعصوم.

والنصيحة بهذا المعنى هي واجبة على الرعية تجاه أئمتهم كما جاء في الروايات العديدة، أي أن يخلصوا معهم في القول والعمل ولا يغشوهم ابتغاء الدنيا والراحة، ومن هنا نعي تماماً لماذا قال الإمام الحسين (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية بعد ذلك: (يا أخي قد نصحت فأشفقت، فأرجوا أن يكون رأيك سديداً موفّقاً).

ولكي لا يطول بنا المقام نختصر التوضيح في نقاط، ونرجئ الإسهاب إلى موضعه.

ونقول:

1 – من يقرأ المحاورة التي جرت بين الإمام الحسين (ع) وأخيه محمد، في مختلف المقاتل والمصادر، يجد أسلوب الحديث الراقي، المليء بالاحترام والتقدير بين الطرفين.

2 – لقد أقر محمد بن الحنفية بأنه إنما يقول ذلك فإنما يقوله عن إخلاص وحرص وخوف على الإمام (عليه السلام) وعلى النسوة، وأنه لم يدّخر شيئاً من النصيحة والصدق إلا تحدث به، وذلك لأهمية الحدث، ويبقى أن ذلك هو منتهى علم محمد وهو العالم، ولكن فوق كل ذي علم عليم، ولا يعلو على علم الإمام أحد من الناس.

3 – إن محمد بن الحنفية قد سلّم الأمر في نهاية المحاورة ولم يعترض على إجابة الإمام كما فعل غيره، ولم يذهب عنه مغضباً كما فعل آخرون، ولم يفرح لنهايته في مقتله كما فعل غيره، بل قال (إنا لله وإنا إليه راجعون)، مصدقاً بما وعد الله به من شهادة الإمام الحسين (ع)، وما يعزّز حسن ختام المحاورة، أن الإمام الحسين (ع) أعطاه مهمة هي من أدق المهام وأخطرها في التحرك، وهي بأن يكون عينه في المدينة.

4 – إن محمد بن الحنفية كان يعرف مقام الإمام الحسين (عليه السلام) حق المعرفة، وهذا يثبته التاريخ الطويل الذي صاحب فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخيه الإمام الحسن ثم الحسين (عليهما السلام)، وتؤكده عباراته في محاورته، والتي منها على سبيل المثال: (أنت أحب الناس إليّ وأعزّهم عليّ)، (فإنك كنفسي وروحي وكبير أهل بيتي ومن عليه اعتمادي وطاعته في عنقي، لأن الله قد شرّفك وجعلك من سادات أهل الجنة).

5 – إن نصيحة محمد بن الحنفية كانت تتضمّن محورية الدعوة، ولم تكن فقط لحفظ الإمام وسلامته وسلامة أهله، فإنه دعاه أن يبتعد عن الأمصار من أجل أن يتهيأ للدعوة ويدعو الناس إلى نفسه فيما بعد، ولذلك نجد أن الإمام قد استمر في محاورة محمد فسأله إلى أين أذهب؟ أي في نظرك أي الأماكن تراه صالحاً لهذه المهمة، فأشار إليه أن يستخبر أهل مكة وإن لم يجد فيهم ما يطلب فيتّجه صوب اليمن التي تمتلئ بشيعة أبيه، ومن هنا أكد الإمام الحسين (ع) على حتمية عدم المبايعة، فبكيا معاً لمعرفتهما بخطورة الحال.

6 – مما لم يلتفت إليه الكثير من الباحثين أن محمد بن الحنفية أشار على الإمام (عليه السلام) أن يذهب إلى مكة كخيار أول حيث قال له (اخرج إلى مكة، فإن اطمأنت بك الدار فذاك الذي تحب وأحب)، وفي ختام المحاورة أوضح له الإمام أنه عازم بالفعل على الذهاب إلى مكة وقد تهيأ لذلك، في قوله: (جزاك الله ، يا اخي، عني خيراً، ولقد نصحت وأشرت بالصواب، وأنا أرجو أن يكون إن شاء الله رأيك موفّقاً مسدّداً، وإني قد عزمت على الخروج إلى مكة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي، وأمرهم أمري، ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم، ولا تُخف عليّ شيئاً من أمورهم). الفتوح والخوارزمي.

7 – أما ما يورده البعض من أن محمد بن الحنفية ضنّ بنفسه وبأولاده على الإمام ورفض الذهاب في نصرة الإمام الحسين (ع)، فهي محاورة لا ترقى أن تكون لمثل محمد بن الحنفية الذي عرفنا مقامه وأسلوبه مع الإمام، وأن هذا النقل لم تنقله المقاتل الشيعية، وإنما نقلته المصادر السنية حصراً، مثل كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، وسير أعلام النبلاء وكتاب تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير، وكلها لا يعتمد عليها فيما خالف ما في مصادرنا الروائية، فهي الميزان وهي المعتمد فيما يعتمد من مصادر المخالفين.

8 – عندما نجهل أسباب لحوق محمد بن الحنفية فإنه لا يسوغ لنا أن نتبرّع بحمله على محامل سوء، بل العكس هو الصحيح، ولذلك ذهب علماؤنا الأعلام على البحث عن عذر صحيح، وقبلوا بما ورد من كتب التاريخ بأنه كان مريضاً، وقد يكون لسبب سياسي سري غير ظاهر، كأن يكون عين الإمام في المدينة المنورة وغير ذلك، وهذا هو الاتجاه الصحيح في القراءة التاريخية، وقد كتب له الإمام الكتاب الخالد الذي يوضّح مبدأ خروج الإمام (ع) الذي جاء فيه (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً..)، وهذا بحد ذاته يكفي أن يكون سبباً لبقائه في المدينة.

 ولا يفوتنا أن نؤكد على مدى علم ووعي محمد بن الحنفية (رضوان الله عليه) بحتمية وقوع مأساة كربلاء وأن الإمام الحسين (عليه السلام) تقتله الفئة الباغية، وأن كربلاء هي موضع سفك دمه الطاهر، وهي موضع قبره الشريف وعلو منائره العالية، بما تضافرت به الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله) وقد علم بها القاصي والداني، ولم تكن لتخفى على محمد وهو ربيب الإمام علي (عليه السلام).

بل ولديه العلم التفصيلي بواقعة كربلاء وبشهدائها واحداً واحداً وبأسمائهم، وقد نقل عنه في المناقب قوله:

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: وَإِنَّ أَصْحَابَهُ – أي الحسين (ع) - عِنْدَنَا لَمَكْتُوبُونَ‏ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِم‏. (المناقب، ج4، ص53).

من مؤلفاتنا