نحو آداب في التعامل مع التراث الديني

basaaer51السيد محمود الموسوي

بين دعاوى حفظ التراث وإحيائه، ودعاوى تنقية التراث وتهذيبه، تبرز إشكالية في التعامل مع التراث الديني، وهي الحساسية المفرطة في مناقشة التراث أو الحساسية المفرطة حول قبول التراث وحفظه، والإبقاء عليه، والكلام ليس في البعد المنهجي في التعامل مع التراث الديني،

.

وإنما الكلام في السلوك الأخلاقي في التعامل مع التراث، لأن الأبعاد المنهجية تناقش سبيل التعامل والتعاطي في داخل الموضوع، والبعد السلوكي هو سبيل وآداب التعامل حول الموضوع، وبعبارة أخرى، نحن بحاجة إلى البحث عن سلوك أدائي في التعامل مع مادة التراث الديني، وهو ما يمكن أن يؤسس إلى إيجاد منهج أخلاقي من شأنه أن ينفع البعد العلمي بشأن التراث وأمانة المحافظة عليه.

فكما أن للتعامل مع كل موضوع جعل له الشرع آداباً، كأداب المساجد وآداب الزيارة وآداب الطعام وآداب السفر وآداب زيارة المريض وآداب تلاوة القرآن وآداب للدعاء، فيمكن أن تنشأ آداب للتعامل مع التراث الديني، فأهميته لا تقل عن الكثير من المواضيع التي أصبحت لها آداب للتعامل، فالتراث في جهة من جهاته يعد مصدر للمعرفة الدينية بصورة مباشرة تارة، عبر الروايات، وبصورة غير مباشرة تارة أخرى، عبر النصوص الأعم.

والمقصود بالتراث الديني هو المادة الوثائقية المتوفرةـ والتي ورثناها عبر الأجيال، وهي التي تحمل بين طياتها منتجاً دينياً، سواء كانت تحتوي على نصوص روائية أو أدعية أو أحداث تاريخية، أو آراء علمية، والآداب في التعامل مع التراث لا نعني به منهج قراءة النصوص بحال، وإنما هو التعامل مع هذه المادة الوثائقية، مما يسهم في رفد المعرفة، وعدم بخس الجهود العلمية السابقة حقها.

التراث بين الحفظ والاتلاف

بالنظر إلى التراث الديني، فإننا نجد أن التعاليم الدينية دعت إلى كتابة العلم والمعرفة عبر الحفظ في الذاكرة أو الحفظ في الكتب، وقد روي عن رسول الله (ص): من حفظ من أمتي أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة عالماً فقيهاً) [1]. وورد عنه (ص) بشأن الكتابة، قوله : (قيدوا العلم بالكتابة)، وعن الإمام الصادق (ع): احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها) [2].

وتأريخياً فقد مرت عصور الإسلام الأولى، منذ النبي (ص) وإلى عصر الإمامة بغيبة الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، باهتمام بالغ لتدوين المعرفة، اهتم الأئمة (ع) وأصحابهم بالتدوين، وقد أُلفت الكثير من الكتب لتكون وثائقاً يمكن الإستفادة منها عبر الأجيال، "وقد عمد بعض المحققين بعد تتبع طويل في كتب الرجال إلى ضبط (1695) كتاباً صنّف" في عهد الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، هذا غير ما سقط عن الذاكرة المدّونة، بسبب الإهمال أو حوادث التاريخ، التي نالت من الكتب والوثائق وقامت بإحراقها أو رميها في الأنهر للتخلص منها، فقد تلفت العديد من الكتب، التي وصلت لنا عناوينها دون متنها، والكثير منها اندثر عنواناً ومتناً.

وكان من أسباب تلف التراث الديني منع تدوين الحديث وحرقه في العهد الإسلامي الأول من قبل بعض الصحابة، ثم أصبح الإعتماد على الحافظة التي من شأنها أن تحدث تغيرات في النصوص عند نقلها من جيل إلى جيل، كما جاءت الإرادة السياسية للحكام في تحريف الوقائع التاريخية بمساندة المؤرخين المأجورين.

التراث مادة للبحث والمعرفة

المادة الأساس بعد طول عهد بالعهد الأول من زمن النص وما تلاه، هي الوثيقة التاريخية التي تحمل بين طياتها روايات أو وقائع تاريخية، وعند الافتقار إليها تصبح عملية البحث أكثر صعوبة، ولذا فإننا نجد أن جهوداً قد بذلت من قبل علماء كبار في التدوين والجمع والتصنيف للمادة العلمية بغض النظر عن الإيمان بصحتها، ومدى وثوقها لدى المصنف، كي يتسنّى للباحثين التعامل مع المادة الوثائقية بحسب المنهجية التي يرونها، وكانت تلك الأعمال جهوداً علمية عظيمة صبّت في صالح المعرفة الدينية.

فمنها الكتب الأربعة: الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، والتهذيب، والاستبصار، معاً للشيخ الطوسي، وهذه الكتب هي من أوثق ما نقل والسبب في ذلك يعود إلى المنهجية التي اتبعها مصنفوها من تحرّي الدقة والاعتبارية لتكون صالحة للإستدلال العلمي، وجاءت كذلك كتب الأدعية والزيارات، جمعاً وترتيباً، مثل "كتاب الدعاء للكليني، وكامل الزيارات لابن قولويه، كتاب الدعاء ووالمزار للشيخ الصدوق، كتاب المزار للشيخ المفيد، مصباح المتهجد للشيخ الطوسي، وروضة الواعظين للكراجكي"[3].

وقد "قال الشيخ الحر العاملي مؤلف (وسائل الشيعة)، بعد ذكره لأسماء عدد كبير من الكتب المعتمدة التي نقل عنها الحديث بالواسطة عن الصدوق والشيخ الطوسي، وغيرهم من مشايخ الحديث دون أن تصل إليه، قال: وأما ما نقلوه عنه ـ ولم يصرّحوا باسمه ـ فكثير جداً، مذكور في كتب الرجال، يزيد على ستة آلاف وستمائة كتاب على ما ضبطناه"[4]. وكذا كتب الأخلاق وكتب التفسير، واستمرت العملية التدوينية بحسب منهجية كل مصنف، فجاءت موسوعة وسائل الشيعة في الفقه، للحر العاملي (المتوفى 1104 هـ)، وكانت مثال الجمع والتوثيق موسوعة بحار الأنوار، وهي "من تأليف محمد باقر المجلسي، ولم يؤلف مثله في سعته وشموله، حيث يقع في (110) أجزاء حسب الطباعات الحديثة، ويشتمل على معارف دينية متنوعة تشمل العائد، التاريخ، معرفة العالم، الأخلاق والفقه.

ويعد هذا الأثر دائرة معارف للتراث الروائي الشيعي، وقد لعب دوراً هاماً في بقاء الأحاديث وحفظها من الاندثار"[5].

بعد هذه الجهود العظيمة، أصبح لدى الباحثين مادة زاخرة لانضاج البحوث والإبداع في ميادين المعرفة، وسبر غور المتون لكشف المجاهيل.

نظريات إتلاف التراث

بعد ما تعرّض له التراث الديني الزاخر من إتلاف متعمّد نتيجة عداء مستحكم من قبل الفاعلين، وما تسبب فيه ذلك من اندثار الكثير من الكتب العلمية، والتي منها على سبيل المثال كتاب (مدينة العلم) للشيخ الصدوق، والذي يعدّ من ناحية الحجم ضعف كتابه من لا يحضره الفقيه، إلا أنه لم ير له أثراً، فبعد تلك الحقبة المأساوية، يمكننا أن نقول أن الدعاوى التي انطلقت من الداخل الشيعي تحت مسمّى تنقية التراث من الشوائب، وتهذيبه من الدخيل، وتصحيحه من الإعوجاج، هي عمليات مشابهة لفعل الاتلاف ولكن عبر تنظيرات ومبررات تحمل الشكل المعرفي، إلا أن مؤداها هو ذاته الذي انتهت إليه عمليات إتلاف التراث الديني.

هنالك اختلاف بين تبني رؤية أو منهج في التعامل مع التراث، لقبول ورد مادة منه، لصياغة رأي أو رؤية ما، وبين المطالبة بحذف وإلغاء مادة تراثية أو روائية، والعبارات التي أطلقها البعض لم تكن لائقة بالمقام، وهي تؤدي مؤدى الإتلاف واقعاً، كعبارات التطهير، والتنقية، ثم أن الأسباب التي هي وراء تلك العمليات جاءت متنوعة، فمنها ما هو معرفي اجتهادي من خلال الإيمان بتكذيب المرويات، أو من خلال الإستحسان العقلي الذي لا يستوعب المادة ولا يقبلها وفقاً لمقاييس حسّية، وبعضها جاء الواقع مبرراً للحذف، كضرورة التعايش بين المسلمين، وتجاوز ما يثير المسلمين بحسب تعبيراتهم، وما إلى ذلك من أسباب واهية لا تعطي لأي أحد الحق في إتلاف وحذف التراث المعرفي.

هنالك حالة من الخلط بين الحديث عن منهج معرفة التراث وتصحيح ما يمكن أن يكون قابلاً للاستدلال عند الباحث، وبين الحديث عن السلوك والآداب في التعامل مع عموم ذلك التراث أو حتى مع التراث غير المقبول لدى الباحث، فالمنحى الأول يصب في اتجاه حجية الأخبار واعتماد المرويات في تشكيل وبلورة الحكم أو الرؤية، والثاني يصب في عموم المحافظة على المادة التراثية التي هي مادة البحث، سواء اعتقد بصجتها أو اعتقد باحتوائها على الغث والسمين، ومن ذلك الخلط فقد حمل البعض الكلام في المنهج على التعامل مع التراث، فظن أن رفضه لرواية يعني بالضرورة ضرورة حذفها وتغييبها.

التراث كحق من حقوق الباحثين

يمكن للباحث أن يبدي وجهة نظره حيال مادة تراثية ما، وله كامل الحرية في البحث والتنقيب وإعلان الرأي، إلا أنه ليس من حقه المطالبة باتلاف تراث ما، وهو المادة البحثية الخام، ولو كان ذلك تحت ذريعة الضعف الذي لا يعتمد عليه في بناء رأي، أو الأسطورة المشوّهة، وما إلى ذلك، لأن المادة التراثية هي حق عام للباحثين والعلماء، والعملية الاجتهادية في البحث في التراث مستمرة، ويمكنها أن تتطوّر، وهذا التطوّر قد يخلق مغايرة في النتائج، كما حصل تبدل الرؤية في المدرسة القمية ونظرتها لمفهوم الغلو.

تراث البرقي المهدّد

لقد حدّثنا التاريخ عن إشكالية كانت سائدة في الأجواء العلمية في قم المقدّسة في القرن الثالث الهجري، فلقد كان القميون متشددون في شأن الرواية عن النبي (ص) وأهل بيته (ع)، حتى أنهم اصطدموا بالراوي الكبير أحمد بن محمد بن خالد البرقي الذي كان حسب منهجيته ينقل مختلف الروايات، فلم يقتصر على الرواية عن الثقات بل تعداها وأكثر من الرواية عن الضعفاء أو المجهولين وكذا المراسيل، وقد قال عنه الشيخ الطوسي بأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، إلا أن كتب الرجال صرّحت بوثاقته في نفسه، فلم يكن الجو العلمي السائد في قم المقدّسة آنذاك يستوعب مشروع البرقي، "ولهذا السبب اصطدم محدثوا قم، وعلى رأسهم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وكان بمثابة الشخصية الأولى في قم ورئيسها غير المنازع، حيث وجدوا أحمد بن محمد البرقي ينقل عن الضعفاء ويروي أحاديث بلا سند (مرسلة)، فلم يسمحوا له بالبقاء في قم، وقام أحمد بن محمد بن عيسى بإخراجه.

إلا أن أحمد بن محمد بن عيسى، والقميين ما لبثوا أن التفتوا إلى الخطأ الذي وقعوا فيه في حق أحمد البرقي ورأوا أنهم عثروا وزلّوا في قرارهم ذلك، إذ أن البرقي كان ثروة علمية لا تعوّض، فقد روى في فروع الحلال والحرام والأحكام الشرعية قرابة ثمانمائة وثلاثين رواية.

هذا إضافة إلى رواياته في أصول العقائد، وروى النص على الأئمة الإثني عشر (ع).. بعدما انتبه القميون إلى ذلك. وعرفوا أي خسارة اكتسبوها[6]، قام رئيس قم وشخصيتها الأول أحمد بن محمد بن عيسى، ومعه جماعة من أهلها بالاعتذار إلى أحمد البرقي، وطلبوا منه العودة إلى قم، وممارسة نشاطاته الفكرية والعلمية في أجوائها"[7] وبعد وفاة البرقي شاهد الناس أحمد بن محمد يخرج حاسر الرأس حافي القدمين يشيّع البرقي وهو يجهش بالبكاء.

حادثة البرقي هذه هي في صميم الإشكالية التي نحن بصددها، حيث أنه لم يجابه برأي مخالف وحسب، بل بقرار إداري يقصيه من ساحة الفكر ومنع مشروعه التراثي الذي يعمل على إنجازه، وهذا يعد خسارة جسيمة للباحثين والعلماء، خصوصاً إذا عرفنا أن النجاشي والطوسي في رجالهم ذكروا للبرقي (96) كتاباً في مختلف المعارف الدينية، وقد كانت نتيجة تقريبه من جديد والاحتفاء به، أن استفاد العلماء من بعده من تصنيفاته كالشيخ الصدوق "من كتابه المحاسن، ما منه ألف كتاب ثواب الأعمال، وعقاب الأعمال، وكتاب العلل.."[8].

ومن هنا نلفت النظر إلى أن الدعوات المعاصرة في تنقية التراث وتهذيبه بقرار سياسي أو المطالبة بقرار جمعي من قبل المراجع الدينية، لمنع بعض الكتب أو حذف بعض التراث من بعض الكتب، لاعتبارات اجتهادية أو سياسية محدودة بنظر شخص أو حزب وآخذة في اعتبارها الحال الراهن الذي تعيشه وحسب، هذا التأثير الزمني أو النظرة المحدودة هي خطيرة في الغاية التي سوف تؤدي إليها من منع التراث وحرمان الميدان العلمي والبحثي من التنقيب والحفر فيه.

وما يفهم من الروايات الداعية إلى طرح بعض الحديث لمخالفته الكتاب والثابت من السنة أو الضرب به عرض الحائط أو تركه أو عدم الأخذ به، بحسب اختلاف تعابير الروايات، أنها تنظر لمدى الحجية لما يصل إليه اجتهاد الشخص، فينبغي أن لا يأخذ بمضمونها لمخالفته الأصل الديني، وهذه النتيجة في الخالفة من عدمها هي أمر اجتهادي في الكثير منها كما هو معلوم، فيأتي الكلام هنا أيضاً بأن الإشكالية في الحذف والإلغاء وفي القرارات الإدارية للتصفية.

التراث الديني بين التواضع والغرور العلمي

يمكننا أن نضع بعض النقاط التي تنفع في سياق بلورة رؤية في آداب التعامل مع التراث الديني، ومنها الإبتعاد عن الغرور العلمي، فإن الباحث لا يمكنه أن يدّعي الوصول إلى كمال المعرفة التي لا تقبل الخطأ، فيبقى أن لدى كل شخص ـ ما عدى المعصوم ـ مساحات من الجهل بحاجة إلى ملئ، وبالتالي فيمكن من خلال عملية البحث أن تتغير أوجه النظر أو تتكامل الرؤى، ومن الغرور أن يعتقد الإنسان أن ما وصل إليه هو القمة الذي لا يقبل أن يأتي ما يعلو عليه.

إن "غرور العلم‏ كان وراء الكثير من جهالات البشرية عبر التاريخ، وحسبما ذكره إمام الحكماء أميرالمؤمنين عليه السلام: (مَنْ ادَّعَى مِنْ الْعِلْمِ غَايَتُهُ، فَقَدْ أَظْهَرَ مِنْ جَهْلِهِ نِهَايتُهُ). وقال عليه السلام: (غَايَةُ الْعَقلِ الاعتِرَافُ بِالجَهْلِ)[9].

ومن هنا ندعوا إلى التنبّه إلى عدة حقائق في هذا المجال:

أ/ يحتاج الباحث إلى التواضع أمام التراث الديني، فينهل منه بحسب ما وصل إليه من معرفة، ويترك الباقي إلى ميادين البحث الأخرى لتنهل منه، فالحكم النهائي على تراث ما والسعي لحذفه يعد من الغرور العلمي بالنتائج التي وصل إليها، وهذا إنما هو دليل جهل كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (ع).

ومن الغرور العلمي الذي قد يكون خفياً عند البعض أنه يدعوا لتنقية التراث الروائي، ويضع العقبة أن الرواية قد تكون صدرت عن المعصوم (تقية) فيطالب بمنزيد من الضوابط ولكن يصر على نفس الغرض، والغرابة هنا أنه يحتمل الصدور عن التقية فقط ولا يحتمل أن الرواية قد صدرت وجاءت بما لا يقبله عقله أو بما لم يصل إليه استيعابه بعد!!

فهذه الملاحظة من تأثيرات الغرور العلمي لدى بعض الباحثين المطالبين بتنقية التراث الديني.

ب/ مهما بلغ الباحث من معرفة، فإن ميدان العلم لا يزال مفتوحاً للاكتشاف والإبداع، وقد تتحول بسبب ذلك قناعات الإنسان من فترة إلى أخرى، فينبغي الإعتبار بتبدّل آراء العلماء وتحولاتها في مجالات الرواية وغيرها.

فكان من العلماء من يعتقد بصحة بعض الكتب بتمامها، ثم يتبدل رأيه إلى قبول ما صح منها، والعكس كذلك، وكما تطور فهم العلماء في الرواية إلى تقسيمات (فرع وأصل) (محكم ومتشابه) وما إلى ذلك، فانتفت العديد من التعارضات التي كانت قد فهمت كروايات متعارضة، فمنهم من أسقطها جميعاً ومنهم من تخيّر في قبول إحداهما، وبعد ذلك التطوّر تم اكتشاف أنه لا يوجد تعارض من أساسه في العديد من الأمثلة.

فعلى سبيل المثال فقد اعتقد البعض أن روايات الأكراد التي تقول أنهم قوم من الجن كشف عنهم الغطاء، والتي أفتى بعض الفقهاء اعتماداً عليها بكراهة التعامل معهم والتزويج منهم، وذهب بعض المطالبين بتنقية التراث الديني إلى أنها متعارضة مع روح الدين، وبالتالي هذه الروايات مما يجب حذفه ومحوه من ذاكرة الكتب الروائية، وقد جاء بعض العلماء بفهم مغاير، فقال أن التعبير بالجن عن الأكراد كدلالة على الخفاء فقد كانوا يعيشون في الجبال، وبالتالي فهم بعيدون عن أمكنة التحضّر والمدن التي عرفت الدين، فالتعامل معهم على أساس بُعدهم عن الدين وعدم معرفة أسس التعامل السليم، وبالتالي فإذا انتفى الخفاء المؤدّي إلى ذلك انتفى الحكم، وهذا المثال يفتح أمامنا أبواباً واسعة من الإطلالة على التراث بمزيد من التواضع واكتشاف المعارف، ويدعونا إلى الحذر من مقولات التنقية والحذف والإلغاء للتراث الديني.

ج/ الدعوات التي أطلقها البعض في حق التراث الديني والتي وصلوا إلى نتائج بضرورة حذف بعض المرويات أو بعض ما ورد في التاريخ، هي حالة اجتهادية، وبالتالي فينبغي احترام الحالات الاجتهادية الأخرى، ومن الغرابة أن نجد من يبرّر حذف بعض التراث بأنه كان اجتهاداً من علماء ولم يكن رأي معصوم، ناسياً بأن نتيجته بحد ذاتها نتيجة اجتهادية وليست رأي معصوم!.

د/ إن التراث الديني ليس بالضرورة ينفع في الحكم الشرعي الإلزامي، بل قد ينفع جزء منه في غير الإلزاميات، بل وقد لا تفيد بعضها في المنحى الفقهي، وإنما تنفع في المنحى الاجتماعي أو السياسي، من خلال قراءة جمعية لذلك التراث، بل وقد ذهب بعض العلماء إلى أن للروايات الضعيفة أو المرسلة فائدة من حيث تعاضد الأدلة واشتهارها، بما ما مجموعه يشكل قوة استدلالية غير مباشرة عبر تضافر الأدلة.

هـ/ احتمالية الصدور عن أهل البيت (ع) بخصوص الروايات أو الأفعال تترك بعداً آخر في التعامل، وهو الحذر من الرفض والتسرّع في عدم القبول، ولذلك حذرت الروايات من الاستهانة بالروايات المنسوبة إليهم، كما في الكافي الرواية التي يرويها الثقات الأجلاء: عنه ـ اي محمد بن يحيى ـ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) يَقُولُ‏: وَاللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَصْحَابِي إِلَيَّ أَوْرَعُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ وَأَكْتَمُهُمْ لِحَدِيثِنَا، وَإِنَّ أَسْوَأَهُمْ عِنْدِي حَالًا وَأَمْقَتَهُمْ لَلَّذِي‏ إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يُنْسَبُ إِلَيْنَا وَيُرْوَى عَنَّا فَلَمْ يَقْبَلْهُ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وَجَحَدَهُ وَكَفَّرَ مَنْ دَانَ بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي لَعَلَ‏ الْحَدِيثَ‏ مِنْ‏ عِنْدِنَا خَرَجَ‏ وَإِلَيْنَا أُسْنِدَ فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجاً عَنْ وَلَايَتِنَا"[10].

[1] / بحار الأنوار: ج2، ص153

[2] / الكافي، ج1، ص 4

[3] / دروس في نصوص الحديث، مهدي المهريزي، ص 108

[4] /دروس في نصوص الحديث ونهج البلاغة، مهدي المهريزي، ص 66، عن وسائل الشيعة: 20/165

[5] / دروس في نصوص الحديث، مهدي المهريزي، ص122

[6] / والأصح: أي خسارة خسروها.

[7] / رجال حول الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، ج2، ص 168

[8] / المصدر، ص170

[9] / بينات من فقه القرآن (سورة النور)، ص: 87

[10] / الكافي، للكليني، ج2، ص223

من مؤلفاتنا