السعي بين الصفا والمروة
سعي نحو المستقبل
منسك السعي بين الصفا والمروة جزء أساس من الحلقات المتصلة مناسكياً بسائر أعمال الحج والعمرة، ولا يخرج من نظام التأثير العبادي العام في الفرد تربوياً، ولذا فإن له أثراً في قاعدة التفوق البشري التي يراد للمرء منها أن ينطلق في رحاب التغيير في شخصيته وبنائها بناء صالحاً وقوياً، يتحدى رياح الحياة العاتية، ويتصدّى لتفعيل قدراته في الأرض الممهدة له من قبل الله تعالى، تسخيراً منه تعالى للإنسان، حيث قال تعالى تحقيقاً لهذه الغاية:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}. (سورة لقمان 20)
.وقد يظن الظان أن السعي بين الصفا والمروة هو أضعف حلقات التأثير في بناء الذات ومسار الحياة للإنسان، ولعل منشأ ذلك هو أن هذه العبادة تجري خارج إطار مسجدية الحرم المكي الشريف، فيجوز دخول المرأة الحائض فيه، ويجوز منها السعي فيه، كما أن الشريعة المقدّسة لم تفترض على الحاج وجوب الطهارة في هذه العبادة، أو كما قيل أنه لا يوجد في نصوص الشريعة ما يثبت أن السعي يمكن أن يؤديه المرء مستقلاً ندباً، كما يؤدي الطواف المندوب، ولكن كل ذلك سراب لا يلتفت إليه، فمادام السعي منسكاً من مناسك الحج فهو داخل ضمن نظام العبادات الإسلامية التي شرّعت لصياغة الشخصية المؤمنة، وهي النافذة الذي ينفذ منها المرء إلى أبواب الرحمة الإلهية.
إن الله تعالى يقول: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ)، وشعائر الله واجبة التعظيم، وتعظيمها يزيد من جرعات الإيمان والتقوى في حياة الإنسان وفي قلوب المؤمنين: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، والشعائر هي العلامات التي تتقولب في حياة الإنسان فتكوّن الصبغة المفضلة في شخصيته، وتخلق الجينات الأساس في رسم معالم طريقه ومواقفه في حياته، ومن هذا المنطلق فإن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله تعالى، وهو لبنة أساس في بناء شخصية الإنسان، وبناء قدراته التي تجعله متفوقاً على واقعه.
وسعى لها سعيها
هنالك ربط بين (السعي) كمنسك، و(السعي) كنظام تفاعلي عام، ليس من خلال اللفظ وحسب، وإنما من خلال الإنسجام التام بين مفردات وقيم الدين، ويبدوا التجانس واضحاً من خلال قراءة روايات السعي التي جاءت على لسان أهل البيت (عليهم السلام)، والتي سوف نبين فيها أن السعي بين الصفا والمروة يعزّز حالة السعي وبذل الجهد، بل وتعد خطواته الساعية بين جبل الصفا وجبل المروة خطوات نحو رسم مستقبل الإنسان. فبين العلل التي ذكرتها الشريعة في تأسيس منسك السعي بين الصفا والمروة، نجد سعي السيدة هاجر نحو بناء الحياة بحثاً عن الموارد التي تعزز قدرات الإنسان وتفي بمتطلباته الحضارية، ونجد سعي إبراهيم النبي (ع) الذي كان يواجه غرائز الشيطان ومكائد القوى السلبية التي تخطط لإضعاف الإنسان عن أداء رسالته وبلوغ أهدافه الشخصية والحضارية. فالسعي وبذل الجهد والتخطيط للمستقبل هو العنوان الأساس لمنسك السعي بين الصفا والمروة في حج بيت الله الحرام.
قا ل تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (سورة النجم 39 - 40)
فالسعي ضرورة حياتية، ومن خلالها يحصد الإنسان ثمار سعيه، فلابد أن يوفر مقدمات كل ما يروم تحقيقه، من العلم والمعرفة، ومن الصحة والعافية، ومن المال وسائر الإمكانات.
وفي سعي الصفا والمروة، لا ينبغي أن يجمد الإنسان على حدود الشريعة من أحكامها وشروط صحتها، بل ينبغي أن تكون تلك منطلقات ليحلّق في رحاب الآفاق المعنوية لذلك المنسك العظيم، والتحليق عبر قوّة الخيال الإيجابي الذي هو من أبعاد القوة الروحية لدى الإنسان، ومن خلال تلك القوّة التخيلية وانطلاق التفكير أثناء أداء المنسك العبادي تبدأ مفاعيل العبادات في حياة الإنسان.
التحليق للمستقبل
يمكننا أن نقول أن المضامين التي يرفدها السعي للشخصية هي مضامين مفتوحة في جوانب واسعة، وهي تصب باتجاه مستقبل الإنسان، فبعض العبادات محدّدة الفائدة، ومركّزة المضامين في اتجاه معيّن، أما السعي بين الصفا والمروة فآفاقه واسعة، وهنا رواية تنفي التوقيت في السعي، تقول:
عَنْ أَبِي الْجَارُودِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ:)لَيْسَ عَلَى الصَّفَا شَيْءٌ مُوَقَّتٌ(.
وفي لسان العرب: (كلُّ شيء قَدَّرْتَ له حِيناً، فهو مُؤَقَّتٌ، وكذلك ما قَدَّرْتَ غايتَه، فهو مُؤَقَّت). فنفي التوقيت هو نفي المحدودية، وليس نفي العمل أو نفي الدعاء في تلك البقعة، فلو كان هنالك دعاء مؤقت لكان ينبغي أن نقرأ دلالات ذلك الدعاء لمعرفة الإطار الذي يرفده السعي في الحياة، ولكن عندما لا يكون دعاء مؤقتاً فهذا يدل على أن الآفاق مفتوحة، والدليل على ذلك هو وجود مجموعة من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) تتحدّث عن بعض الأعمال وبعض الأوراد، وتلك الأوراد شاملة لشؤون الدنيا وشؤون الآخرة.
فعن انعكاس السعي على الحياة الإنسانية في الشؤون الدنيوية ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْثُرَ مَالُهُ فَلْيُطِلِ الْوُقُوفَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ). وفي شؤون الآخرة، ورد: في من لا يحضره الفقيه: (أَنَّ الْحَاجَّ إِذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ). وأورد أن عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) قال: (السَّاعِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَشْفَعُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ فَتُشَفَّعُ فِيهِ بِالْإِيجَابِ).
الإيجابية المستقبلية
الأطر العامة لمحددات التأثير المستقبلي للسعي هو التفكير الإيجابي، أو النظر للمستقبل بعين حسن الظن، وتحديد أهداف صالحة، تبني حياة الإنسان وفقاً لمحورية الفكرة الدينية الصالحة، لذا نجد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) يردد في دعائه هذه المضامين، بحسب الرواية:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ: كُنْتُ وَرَاءَ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (ع) عَلَى الصَّفَا أَوْ عَلَى الْمَرْوَةِ وَهُوَ لَا يَزِيدُ عَلَى حَرْفَيْنِ- اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُسْنَ الظَّنِّ بِكَ فِي كُلِّ حَالٍ وَ صِدْقَ النِّيَّةِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ.
فحسن الظن بالله هو توقع الخير كله، لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو في مصلحة عباده.
لذلك فإن أول وقوف الحاج على الصفا قبل بداية سعيه، يستجمع في نفسه أهدافاً مستقبلية عديدة ما يشمل الدنيا والآخرة، كهيئة دعاء، ومنها:
1- عدّ النعم التي أنعم الله بها عليه. (الإيجابية).
2- النظر للبلاء على أنه له باب حسن يعود على المرء بالفائدة. (الجوانب المشرقة).
3- شكر الله وتعظيم نعمه وحسن ما صنع إليه. (الإستزادة).
5- فتح الأفق الواسعة مع الله تعالى. (الإيمان بقدرة الله).
6- طلب نعم الدنيا من المعاش والاجتماع، وخير الآخرة. (التوازن بين الدارين).
نجد هذه الأمور في الرواية التالية:
عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) حِينَ فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ وَ رَكْعَتَيْهِ قَالَ أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ مِنْ إِتْيَانِ الصَّفَا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ- إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ).
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع): ثُمَّ اخْرُجْ إِلَى الصَّفَا مِنَ الْبَابِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ (ص) وَ هُوَ الْبَابُ الَّذِي يُقَابِلُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ حَتَّى تَقْطَعَ الْوَادِيَ وَ عَلَيْكَ السَّكِينَةَ وَ الْوَقَارَ فَاصْعَدْ عَلَى الصَّفَا حَتَّى تَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ وَ تَسْتَقْبِلَ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَ احْمَدِ اللَّهَ وَ أَثْنِ عَلَيْهِ ثُمَّ اذْكُرْ مِنْ آلَائِهِ وَبَلَائِهِ وَ حُسْنِ مَا صَنَعَ إِلَيْكَ مَا قَدَرْتَ عَلَى ذِكْرِهِ..
ثُمَّ كَبِّرِ اللَّهَ سَبْعاً وَاحْمَدْهُ سَبْعاً وَ هَلِّلْهُ سَبْعاً وَقُلْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ* وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ (ص) وَقُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَيِّ الدَّائِمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقُلْ- أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ* وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* ثَلَاثَ مَرَّاتٍ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ اللَّهُمَ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ كَبِّرِ اللَّهَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَهَلِّلْ مِائَةَ مَرَّةٍ وَاحْمَدْ مِائَةَ مَرَّةٍ وَ سَبِّحْ مِائَةَ مَرَّةٍ وَتَقُولُ- لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَ نَصَرَ عَبْدَهُ وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَحْدَهُ وَحْدَهُ اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي الْمَوْتِ وَفِي مَا بَعْدَ الْمَوْتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ اللَّهُمَّ أَظِلَّنِي فِي ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ وَ أَكْثِرْ مِنْ أَنْ تَسْتَوْدِعَ رَبَّكَ دِينَكَ وَ نَفْسَكَ وَأَهْلَكَ ثُمَّ تَقُولُ- أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي لَا يَضِيعُ وَدَائِعُهُ نَفْسِي وَ دِينِي وَ أَهْلِي..
ومن هنا فإن التوازن المطلوب من المؤمن في حياته أن يكون مردداً بين الرجاء والخوف، هو أساس في نية الساعي، فهو في تفكيره المستقبلي يحكمه الرجاء لرحمة الله والإنجذاب إلى الفوائد وعناصر الإيجابيات في أموره، ومن جهة ثانية يحكمه الخوف من غضب الله تعالى، فينفر من السلبيات والعواقب السيئة التي تنتج عن خيارات الإنسان، هذه القاعدة بينها الإمام زين العابدين (ع) لشبلي حيث قال له:
(أَسَعَيْتَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَشَيْتَ وَتَرَدَّدْتَ بَيْنَهُمَا قَالَ نَعَمْ قَالَ لَهُ نَوَيْتَ أَنَّكَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ قَالَ لَا قَالَ فَمَا سَعَيْتَ وَلَا مَشَيْتَ وَلَا تَرَدَّدْتَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة...)
السعي المتأني
باعتباره سعي بالروح في آفاق واسعة، فالساعي بين الصفا والمروة يمكنه أن يترجّل أو أن يقطع المسعى راكباً، وحال اختيار الترجل، فتوجهه الروايات على أن يكون على سكينة ووقار، يخطو خطواته دون التفكير في تعب المسير أو التفكير في وقت الإنتهاء، فالعملية الروحية والتفكير في المستقبل وهو ماشياً يلائمه ذلك، بل أنه لو أجهد وشعر بالتعب، فيمكنه أخذ قسط من الراحة ثم يكمل مسيره التأملي في مستقبله، والتخطيط لخارطة مشاريعه القادمة.
عَنْ حَجَّاجٍ الْخَشَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَسْأَلُ زُرَارَةَ فَقَالَ: أَسَعَيْتَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ وَضَعُفْتَ قَالَ لَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَوِيتُ قَالَ فَإِنْ خَشِيتَ الضَّعْفَ فَارْكَبْ فَإِنَّهُ أَقْوَى لَكَ عَلَى الدُّعَاءِ.
وعن مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) عَنِ الرَّجُلِ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَسْتَرِيحُ قَالَ نَعَمْ إِنْ شَاءَ جَلَسَ عَلَى الصَّفَا وَ الْمَرْوَةِ وَ بَيْنَهُمَا فَيَجْلِسُ.
المسعى نحو قدرة الله في ملكه
التغيير والإنجاز في شتى مناحي الحياة، ممكن مع الله تعالى، فلا ينبغي للحاج أن يقصر نظره على قدراته المادية أو تصوراته البشرية المحدودة، أو قوانين وضعية تحد من تحقق الأهداف والغايات، بل عليه أن يكون ساعياً في رحاب قدرة الله تعالى، العلي القدير، (أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، من هنا تنفتّح الآفاق وتتّسع دائرة التأثير، ويعي الإنسان أنه ينبغي أن يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه في أفق السماء، ولا يستسلم للمعوقات والمثبطات، جاء في الحديث:
عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي جَمِيلٌ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) هَلْ مِنْ دُعَاءٍ مُوَقَّتٍ أَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ عَلَى الصَّفَا- لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وقد مر سابقاً نفي أن يكون شيء مؤقت في الصفا، وهنا لا ينفي بل يأتي بدعاء، وقد قلنا سابقاً أن نفي التوقيت هو نفي المحدودية، وهذا الدعاء يفتح الأفق للإنسان ليتّسع لملك الله تعالى، الذي ينبغي أن يكرر (وهو على كل شيء قدير) ثلاث مرات، لتترسخ هذه القاعدة في ذاته ويعتمدها كقوّة انطلاق لا يحدها شيء.
ولذا ورد عن الإمام الصادق (ع) في ما يتعلّق به قلب الساعي في هرولته، أن ينتقل من محدودية قدراته إلى رحاب قدرة الله تعالى، حيث يقول: (وَهَرْوِلْ هَرْوَلَةً فَرّاً مِنْ هَوَاكَ وَ تَبَرِّياً مِنْ جَمِيعِ حَوْلِكَ وَقُوَّتِك...).
السعي نحو البصيرة والعلم
لا يمكن أن يزيح الحاج من تفكيره المواجهة الفكرية، والتجاذبات المتلونة في ساحة المعرفة، فمن خلالها إما أن ينطلق في رحاب الهدى والبصيرة، وإما أن يفتتن بالغي والضلالة، لذا فينبغي أن يستحضر الحاج في سعيه الأهداف المعرفية، فيخطّط لطلب العلم، ويرسم لنفسه مستقبل المعرفة فيتسلّح بالوعي في المعترك الحضاري المتشابك، فما ورد من الدعاء في السعي، يوجه الساعي لهذه المرامي، فيقول:
(اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي عَلَى كِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ وَ تَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ وَ أَعِذْنِي مِنَ الْفِتْنَةِ ثُمَّ تُكَبِّرُ ثَلَاثاً ثُمَّ تُعِيدُهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ تُكَبِّرُ وَاحِدَةً ثُمَّ تُعِيدُهَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ هَذَا فَبَعْضَهُ).
مذلة الجبّارين
الجبّار هو الذي يستخدم الجبر والإكراه والقهر في تنفيذ مطالبه، سواء كان حاكماً مترفعاً على الناس يقضي عليهم بغير الحق، أو كان متكبراً في مجتمعه ومتعالياً على الآخرين، هذه الصفة الذميمة لابد أن يقلعها المرء من قلبه، لأن الأمور إنما تؤتى بالتواضع والعدالة والتوازن، فمن تعالى في شؤونه، فإن السعي يسحق هذه الصفة فيه، ولذا فإنه ينبغي أن يكون متفكراً في السعي من هذه الجهة ومتذكراً لحاله، كي ينتفع بمنسكه هذا، وقد يكون السعي ليس بذي فائدة للمتجبّر، وإنما لمن ينظر إليه، فيراه ذليلاً في مسعاه، وينظر إليه الناس كواحد منهم ولا يعطونه أكبر من حجمه، ولا يهابونه، فيحد من تأثيره.
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ:(مَا مِنْ بُقْعَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمَسْعَى لِأَنَّهُ يُذِلُّ فِيهَا كُلَّ جَبَّارٍ).
تقنية التفوق البشري
ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال في هرولة السعي: (وَهَرْوِلْ هَرْوَلَةً فَرّاً مِنْ هَوَاكَ وَتَبَرِّياً مِنْ جَمِيعِ حَوْلِكَ وَقُوَّتِك...).
فكما ذكرنا في المباحث السابقة من قاعدة التفوق البشري القائمة على قوة التخيّل التي تجسّد المعنويات، ثم تفصلها عن ذات الإنسان، ثم يحدّد موقفه منها، فإن في السعي ينبغي أن يقوم بتفعيلها الساعي، فيفصل صفاته السيئة وسلبيات تفكيره، ثم يتخيل أنها خلفه، وفي حال الهرولة في السعي ينوي أنه يفرّ من تلك السلبيات ويتبرأ منها، مما يعزّز حالة النفور منها، وبالتالي السعي نحو مستقبله الإيجابي والصالح.
تم في مكة المكرمة 1/ ذو الحجة/ 1436 هـ
مقالات ذات صلة:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- ما معنى جوامع الكلم؟ - 2010/09/20 - قرأ 48807 مرُة
- معجم المؤلفين البحرينيين يترجم للسيد الموسوي - 2015/05/28 - قرأ 35928 مرُة
- هل في المرض أجر؟ وما صحة قولنا للمريض: أجر وعافية؟ - 2015/05/20 - قرأ 33194 مرُة
- لماذا نسجد على التربة الحسينية؟ - 2010/08/10 - قرأ 31449 مرُة
- مالذي يقصده الإمام الحسين من قوله: (لم أخرج أشراً ولا بطراً..) وهل لها انعكاس على الواقع الشخصي؟ - 2016/10/08 - قرأ 28357 مرُة
- بحث فقهي معاصر في حق الزوجة في المعاشرة - 2011/03/30 - قرأ 20471 مرُة
- السيرة الذاتية - 2010/08/08 - قرأ 19739 مرُة
- ماهو واجبنا تجاه الامام المنتظر والاستعداد للظهور؟ - 2010/08/30 - قرأ 19592 مرُة
- ماذا تقولون في كلمة الإمام الحسين عليه السلام: خط الموت على ولد آدم.. - 2016/10/08 - قرأ 19513 مرُة
- سورة الفيل وقريش - 2010/08/11 - قرأ 15792 مرُة