هلا بيكم.. والمفاعيل الاجتماعية

 

alarbeen

 هلا بيكم.. والمفاعيل الاجتماعية والثقافية

 (هلا بيكم يزوار لِحسين..) كلمة تتردد من شفاهٍ مواليةٍ عاشقة، لتحتضن الملايين من النفوس والعقول، قبل أن تجتذب الأجساد وتشبع البطون وتروي العروق.

 

في موسم زيارة الأربعين في كربلاء المقدّسة وحولها، وفي كل الطرق المؤدية إليها، تعمل آلة الجاذبية من خلال عبارة الترحيب (هلا بيكم)، لكي يُقبل الزائرون الذين توافدوا من كل فج عميقٍ على ما يقدّمه هذا المضيف وذاك الموكب، وما يؤديه هذا الرجل وتلك المرأة، وما يسعى إليه ذاك الطفل وتلك الطفلة، في حركة دائبة تكل فيها الآلات ولا تكل تلك الخدمة. ولكنها لا تقف عند حد الخدمة الجسدية المؤقتة لراحة الزوار، بل تعبر المسافات وتطوي الأزمنة، راسمة صوراً لثقافة، ومشهداً لمجتمع، متحدّية كلَّ الحدود والقيود.

كل علماء الاجتماع ومنظري الإنثربلوجيا، وكل المخضرمين في مجالات الفكر والنفس والسياسة، لم يتمكّنوا من تأسيس ثقافةٍ ومجتمعٍ بآلية (هلا بيكم يزوار)، بل عليهم أن يقفوا عند هذا الموقف المهيب بإجلال وتواضع، قارئين للمشهد بالتحليل والإستفادة، لسد فراغات النظريات الحديثة في صناعة المجتمعات وتأسيس الثقافات وصناعة الإنسان.

إن أهل البيت (ع) وهم معدن العلم وأعلاه، وأعمقه وأصدقه، أسّسوا لثقافة (الزيارة)، فرغّبوا وشوّقوا المؤمنين لشدّ الرحال إليها، وعملوا بدقة عالية على إحداث التوازنات بين زيارة وأخرى، ورسموا بقلم الغيب خارطة تفريق المواسم على خط الزمن السنوي للبشر، لتجتمع الحشود من كل البلاد، يتلون نصوص المعرفة والتزكية، ويُناولون ويأخذون، يَخدمون ويُخدمون، يصرخون ويبكون، يجأرون إلى الله ويستغفرون، يجدّدون عهد الولاية ومن أعدائها يتبرأون، يلتقون على هذه الحال لصناعة تجربة مجتمع الولاء في بضعة أيام، ففي (لقياكم حياة لأمرنا)، وحياة الأمر هو انفتاح على الحياة الطيبة التي أشار إليها الله في كتابه الحكيم.

ولا يقف الحال عند هذا الموقف المهيب. بل السرّ يكمن في أنهم يأخذون الجرعات والبركات إلى مواطنهم ومجتمعاتهم، وكلما أخذ الزائر أكثر استفاد وأفاد أكثر.

والبركة تتسع في مستوى السلوك والثقافة، والموقف والفضل والدرجات في الآخرة، فمنهم من يعطى ثواب عمرة متقبلة، ومنهم من إذا رفع رجلاً أعطي حجة، وإذا وضعها أعطي عمرة، والحساب بقدر المسير، والمسير بقصر الخطوات، فلا يرجع أحد ممن وطأت قدماه واد كربلاء المقدّس خالي الوفاض..

من هنا، فإن استمرار الحشود المليونية في جنّة الإمام الحسين (ع) في موكب الزيارة المهيب في كل عام، من شأنه أن يذكي ثقافة الخير والعطاء، ويرسم خارطة المجتعات الصالحة، ويعزّز روح الإباء والولاء في كل البلاد، فالزيارة هي الماء الزلال الذي ينزله الله تعالى من سماء الحسين (ع) على أرض الحسين فتتدفق لكل أرض، لتهتزّ وتربوا وتنبت من كل زوج بهيج وخير وفير.

السيد محمود الموسوي

صفر 1439هـ

من مؤلفاتنا