بيان علمي في المعرفة الفاطمية

zzzبيان علمي في المعرفة الفاطمية

فاطمة الزهراء (ع)

الحقيقة والسيرة

(1)

لا جدال في فضل الزهراء ومقاماتها، فبيان النبي الأعظم (ص) أوضح بيان وأجلى معنى في ما عليه الزهراء (ع) من عظمة، بل فيما يمكن تعقّله على المستوى البشري من سمو، لأن الحقيقة لا يستوعب سعتها إلا خالقها أو من خلقه الله أوسع باعاً منها، ولا يمكن تصوّر أحداً في هذه الدائرة غير أبيها وبعلها. فسمو معناها واستطالة فضلها وشموخ عظمتها أبين من الشمس في رائعة النهار.

ويكفي في ذلك أن نتلو كلمات المصطفى (ص) في وصفه لها (ع)، حينما قال: (لو كان الحسن شخصاً لكان فاطمة، بل هي أعظم، فإنّ فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً).

إن الحُسن الذي تقاس به الأشياء لتنتظم في نطاق (النية الحسنة، العمل الحسن، العمل الأحسن، الحسنات، الإحسان، الحسنى، وحسن المآب)، ذلك المقياس الذي يعنوِن الأعمال، ولا خدشة فيه، ولا ميل يعتريه، ولا اعوجاج يلويه، هو أقل شأناً من فاطمة سلام الله عليها، فلو كانت تلك (القيمة: المقياس) شخصاً لم يكن إلا فاطمة بنص من رسول الله (ص)، (بل) هي في حقيقتها لا يمكن أن تستوعبها تلك القيمة، ولا أن تحيط بها مقاساتها، فهي (أعظم)، وهذا التفضيل سر لا يمكن للعقل أن يدرك كنهه ولا يفك عقدته، فيمكن أن يقال أن فاطمة هي (قيمة القيم)، أو هي (روح القيم)، أو هي (سر القيم)، بل يمكن أن يقال أنها (عليها السلام) (نبع القيم)، سواء قيل هذا أو ذاك، فإن النتيجة المستخلصة من هذا البيان النبوي الشريف أنها لا تقاس بمقياس إلا مقياس عظمتها الذاتي الذي عبّر عنه أبوها (ص): (خير أهل الأرض عنصراً، وشرفاً، وكرماً).

فهي (ع) خير من جهة (عنصرها) وذات خلقتها النورية كذات مقدّسة، وخير في (شرفيتها) حيث تقلّبت في الساجدين وانحدرت إلى عالم الدنيا من خير النبيين، وهي خير في صفاتها وشخصيتها حتى صارت فوق كل (المكرمات).

(2)

وفي سبيل التعقل لشيء من عظمة فاطمة سلام الله عليها، نحاول التبيّن في تصوير شقين من أبعادها، وهما كونها (حوراء، أنسية)، فجانب (حورائي) ينتمي إلى عالم النور الذي خلقه الله تعالى في بعده التعظيمي العنصري، - وهو غير مسانخ لذات الله تعالى - ولكنها نفحة من خلقه تسامت فوق سائر المخلوقات، وجانب آخر، (إنساني) يفيض عظمة في السيرة والأداء.

فهذان البعدان يشكلان الإيمان والوعي، وهما في محاولة تصنيف:

1- (حقيقتها)، فهي الحوراء، وهو عنوان لعظمتها ومقامها وفضلها، وهو بعد البناء الإيماني في أسسه المعرفية.

2- (سيرتها)، فهي الأنسية، وهو عنوان تفاعلها مع الحياة في مختلف مساراتها، وهو بعد الإقتداء والإهتداء.

إن البعدين الذين أشرنا إليهما يمكن تغذيتهما من خلال التصنيف الروائي موضوعياً، الأمر الذي يشكل لبنة مهمة في بناء المعرفة الولائية، بل وفي قراءة النص الديني عموماً. ويمكن تصنيف الروايات - كمقدمة علمية لوعيها - بحسب الأنظار المختلفة لها، فقسم (محكم) وقسم (متشابه) كمتشابه القرآن الذي لابد من رد متشابهه إلى محكمه وصولاً للهداية، وقسم (أصل) يمكن منه أو تم فعلاً منه (التفريع) و(الإفتاء)، وكما قسّم بعض (التدبيري) و(الولائي)، أو (الظاهري) و(الواقعي)، وغير ذلك من التصنيفات التي تحتاج إلى منظومة تصاغ فيها نظرية بحجم الموروث الروائي الوارد عن أهل البيت (ع).

(3)

وعودة إلى (الحقيقة) و(السيرة) في شخصية سيدة نساء العالمين فاطمة (سلام الله عليها)، فإن مصدر بلورة الرؤية العقدية في المعارف، وهي التي تشكل إيمان الإنسان ومعتقده فيها (ع)، هي روايات (الحقيقة) التي تبرز فضلها ومقامها في السماء، فهي في هذه الطائفة من الروايات (خلق نوري متوقّد في عظمته)، وهي (ممتحنة قبل أن تخلق، فكانت عنوان الصبر والإستعداد)، وهي (في رضاها وغضبها يدور رضا الله وغضبه)، وما إلى ذلك من سمو لا تدركه الأبصار ولا تستوعبه الأفئدة.

وأما مصدر بلورة الرؤية حول (سيرتها) الفوّاحة، فهي الروايات المتعلقة بالدور الرسالي النازل على الأرض، المتمثّل في تلك الأيام والليالي التي أمضتها سيدة النساء في جهاد وجهود لتبليغ الرسالة ونشر فيوضاتها على البشر، فهي في هذا المقام (زهراء مزهرة)، (محدّثة عالمة)، (بتول متعبّدة)، (طاهرة مطهّرة)، و(سيدة النساء وقدوة البشر)، وهي (صديقة شهيدة).

(4)

النتائج المعرفية التي ستعود على الباحث من خلال التصنيف الروائي، يمكنها أن تآلف بين الرؤى التي قد تبدو متباينة للوهلة الأولى، أو تبدو متضاربة ومتنافرة، كما يمكن لتلك النتائج من وعي الأدوار في أبعادها الرسالية لسيدة النساء (ع)، دون أن تمسّ القداسة، ودون أن تخدش مرآة المعتقد العميق.

إن التصنيف المعرفي للروايات من خلال خبرة الحرّيف، واستقراء المتتبع الثبت، وتمييز البصيراللبيب، سيفتح منه أبواب على ساحة الحقائق والبيانات والدقائق، ومن شأنه أن يولّد معارف جديدة لم يقرأها المؤرخ قراءة بصير، أو يظهر ما عمدت يد المؤرخ المأجور على إخفائه، ومن شأنه أن يقدّم بصائر هامة في حل عقد التعارض بين الأدلة والروايات، فيفوز الباحث بكمّ وفير من الروايات التي من دونه - أي التصنيف - قد تلقى في سلّة المضروب به عرض الحائط، أو تلك التي قد يتركها المسلّم في يد التسليم دون انبلاج حكمته.

(5)

فاطمة الزهراء (ع) أنسية في بعدها الرسالي المتولّد من أقدس مهمة جاء بها الأنبياء والرسل، فهي في طريق تبليغها وتحمّل أعبائها، وحمل أثقال همومها، كأقوى من الجبال الراسيات، ومن ملازمة ذلك أن (إنسانيتها) تتفاعل مع الحياة بكل مجرياتها، وتقترب كمثال نوعي من وعي البشر ولبّه، فهي في ذلك كالبشرية في قول الله تعالى على لسان نبيه (إنما أنا بشر مثلكم)، فالمثلية هي في ذلك التفاعل الحيوي ببذل المجهود وتحسّس الآلام واتباع سبل ما يعيه الناس في أعرافهم وما يمكنه أن تستوعبه عقولهم، فليست (البشرية) النبوية و(الأنسية) الفاطمية إلا سنخ واحد من أصل واحد.

ومن ذلك فلا يعني البعد البشري ما يتعرّض له البشر من زلات وهنّات، ولا يعني أنه يعتريها (سهو) أو (نسيان) أو أي نوع من أنواع الضعف والوهن، لأن هذه الأبعاد البشرية إنما تؤدي رسالة هي فوق الإعتبارات، ومهمة هي أعلى المهام، ولأن تلك الروايات والأحداث البشرية في بعدها الإنسي إنما هي محكومة (بمحكمات) المعتقد، وترجع إلى (أصول) المعارف، أي: توجهها روايات (الحقائق).

(6)

إن فاطمة (ع) عالمة، فإن تساءلت فهي إنما تظهر الثمار بمحراث السؤال، وفاطمة عارفة، فلا تشتكي إلا لتظهر معالجةً لمنظومة المعاناة للبشرية من بعدها، وفاطمة تدير رحى الوجود بكفها، فلا تستعين بخادم، إلا لترسم لوحة العِشرة لكافّة الأمم. وإن خاطبها أبوها النبي (ص)، أو بعلها علي (ع)، أو أخبراها بغيب، أو أظهرا لها حكماً، فما ذلك إلا لتصاغ أفهام الأمة على نهج إياك أعني واسمعي ياجارة.

وهاك قطعة من التاريخ تنبئ عن حكاية تترجم معاني الخطاب وضرورة نشر الرحمة منطلقة من أشخاصهم، لأنهم محال رحمة الله وهديه.

لقد أخبر بشير بن زيد، أنه ذات يوم قال رسول الله (ص) كلاماً، وقد وجّهه لابنته فاطمة (ع)، يحث فيه على أهمية أن يشهد الحاج ذبح ذبيحته، لينال رحمة الله وعفوه، فقال لها: اشهدي ذبح ذبيحتكِ، فإن أول قطرة منها يُكفر بها كل ذنب عليكِ، وكل خطيئة عليكِ.

لقد سمع المسلمون هذا الكلام من سيد المرسلين مخاطباً ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين، وقد تأخذ الغيرة وسوء الظن والأحقاد بعضهم إلى أن يتجرأ ويدّعي أن في هذا النص دلالة أو إيماء على أن للزهراء خطأ والعياذ بالله، وأما المسلم العادي فقد يذهب تفكيره إلى أن هذه خصيصة وأثرة يأملها كل طالب رحمة، وكل ساع لعفو، فقام على إثر هذا الفهم أحد المسلمين، وقال للنبي (ص) متسائلاً: هذا لأهلك بيتك خاصة، أم للمسلمين عامة؟

فهذا المسلم قد خشي أن تكون تلك الرحمة مختصة بسيدة النساء أو بأهل بيت النبي (ص)، ولكن إجابة النبي (ص) جاءت كالصاعقة، لتحرف التفكير عن أي شائبة يمكن أن تلامس عنصر الزهراء (ع)، ولتأخذ التفكير إلى ساحة (الحقائق) من جهة، وتفهمه ساحة (السيرة) لتعليم الناس وتبليغهم الرسالة، فقال له: إن الله وعدني في عترتي أن لا يطعم النار أحداً منهم، وهذا للناس عامة.

لقد كشف النبي (ص) عن سر من أسرار الخطاب، وفهمنا أن في روايات السيرة ما هو باب للتعليم، فلا يقصد به عين المخاطب، إنما عنى به صياغة وعي الناس كافة، وبذلك جاءت الرسالات الإلهية.

محمود الموسوي

www.mosawy.com

من مؤلفاتنا