كفؤ لعلي (عليه السلام).. الكتاب السرّي عن فاطمة (عليها السلام)

ketabfatemahالسيد محمود الموسوي

ما زال البحث في كل مرّة ننقّب فيها عن سيرة وعظمة مولاتنا فاطمة الزهراء (ع) يأخذ متّسعه في التحرّي والتقصّي في عالم الإشارات والرموز التي تختزل كنوزاً من الأسرار، لأن سيرتها الخاطفة كنور أضاء سماوات العوالم في سنين قليلة، ثم انحسر عن أبصار الناس واحتجب عن حواسّهم، ولكنّه ترك في أفق المعرفة إشارات وبوارق، هي بمثابة أبواب، كلّما فتحت باباً، أطلّت بك على عوالم من السرد بإطناب لا حدّ لسعته، وإسهاب لاحدّ لدقائقه، في بيان عظمتها الربانية التي لا تدانى من سائر مخلوقات الله جلّ جلاله.

هكذا أودع الله تعالى الأسرار في سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) واختصر في عمرها القصير السِيَر الطوال، فأصبحت كمعمّرٍ عاش كلّ الدّهور وتفاعل مع كلّ الأجيال، فلابد للباحث أن يستمر في تقليب الرموز والإشارات، ويدير التساؤل بحثاً عن الإجابات، تماماً كما يُعمل آلة التأويل في آيات كتاب الله المجيد، فتنفتح من الإشارات مثلما تنفتح من الآيات، بطون غائرة في العمق، وأفق رحب الاتّساع، وكل ما ينبجس منها، عجيب في رشده، قويم في دلالته، وله القوامة في ولايته، لأنها (سلام الله عليها) عِدل القرآن، وأم الأئمة ومُحكم مقامهم.

نحاول في هذه السطور العابرة، أن نميط اللثام عن كتاب سرّي عن فاطمة (سلام الله عليها)، كتاب لا كالكتب التي بأيدي الناس، فليس له أوراق محزّمة بين دفتي جلد مقوّى، ولم يُسمع في تدوينه صرير قلم مؤلّف، ولم تظهر حروف كلماته بمداد قاتم. إنما هو سِفر من أسفار السماء، وصحيفة من جنس صحائف الأنبياء، مكتوبة حروفه بنور العقل، ومنتظمة مطالبه بضياء الفهم، وقد أُثبِتت على صفحات القلوب النقيّة، وضمّتها دفّتا نباهة العلم ووثوق التسليم.

ومن أجل الكشف عن حقيقة ذلك الكتاب السرّي، لابد لنا من الانطلاق من هدي رواية شريفة تحتوي على إشارة تنبثق من التدبّر فيها الحقائقُ الباهرة، والدّرر الثمينة.

والنصّ الذي سنعرضه للتحليل، هو ما روي في كتب معتبرة عدّة، منها كتاب الكافي عن يونس بن ظبيان وكتاب التهذيب عن المفضّل، رووه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

(لولا أنّ الله خَلقَ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) لم يكن لفاطمة (عليها السلام) كُفو على ظَهر الأرض، آدم فمن دونه).

 التحليل الأولي

رواية لو لا خَلْق علي لم يكن لفاطمة كفؤ، رتّبها العلماء في مواضع متعدّدة، وبذلك فهي تعطي دلالتها وتجود بثمارها في الأبواب التي سيقت فيها بحسب موضعها منه.

1 – فقد أوردها البعض في كتاب النكاح في باب الكفاءة، للتدليل على كفاءة الزّوج والزّوجة، كما رتّبها شيخ الطائفة الطوسي في كتاب التهذيب.

2 – وأوردها بعض في كتاب الفضائل في باب تفضيل فاطمة والأئمة على الأنبياء وسائر الخلق، كما صنّفها الحرّ العاملي في كتابه الفصول المهمة.

إلا أن ما أفاده العلماء يمكن أن يكون بجزء ما تضمّنته الدلالة، وقد يجود النصّ بدلالات أكثر عمقاً إذا ما تأمل فيه المتأمل بعيداً عن سياقات قد تؤطّر مدلوله، لأنه سينطلق من النصّ ليشرح له الواقع بدلاً من تأثير الواقع في النصّ.

إن الكفاءة بحسب معطيات اللّغة، هي المماثلة والتساوي، ففلان كفوء لفلان أي مساو له، وعندما نتحدّث عن الكفاءة في التزويج، فإن التأطير الدلالي سينعكس على مفهومها في موضوع التزويج، وليس من شكّ أن أعلام الدّين وفقهائه أشاروا إلى كفاءة أصلية في التزويج، وهي الإيمان والإسلام، ف(المؤمن كفوء المؤمنة)، و(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ). وكفاءة أخرى زائدة عليها، تتصل بالحالة الاجتماعية، فيكفي أن يكون المرء مؤمناً ليكون كفؤاً للمؤمنة، ولكن  من السنّة أن يتكافأ معها من جهة الحالة الاجتماعية أو أنه لابد أن يراعي مستوى الزّوجة عندما كانت في بيت أبيها.

وكما نرى فإن الرّواية لا تؤسّس لهذا المفهوم أولاً وبالذات، ولكنها تلامس معناه في جهة من جهاته، فتكون مؤيّداً لروايات أخرى في مقام الكفاءة الزوجية، ويعزّز هذا الادعاء أن نفي الكفء لو كان لخصوص التزويج لكان الأنسب نفيه عن الأشخاص المعاصرين إذ هم المخاطبين بخاطب إمكان التزويج، ولم يكن داع لنفي الكفوء منذ أول الخلق واستغراق كافة الخلق أجمعين.

أما كون الرواية مساقة في باب الفضائل، فهي تُعطي دلالة إيمانية في بعض نصّها، وهذه الدلالة تقول أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لا يدانيها في الشرف والرتبة والفضل من البشر أحد، بمن فيهم الأنبياء والرسل (آدم فمن دونه).

ولكنّنا ما زلنا مؤطّرين بذلك السياق برغم عمق دلالته وأهمية مفاده، ويبقى النصّ الشريف يكتنز في داخله كنوزاً أخرى، يتكفّل بإظهارها المزيد من التأمل الحرّ خارج سياقات الموضوعات المذكورة.

فكّ الإشارة

الرواية في مقصد مدلولها وغاية مفادها لا يبدو أنها تعني التكافؤ بمعنى التماثل الإيماني الأولي، ولا الانسجام النفسي، ولا التماثل الرتبي الانطباقي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي استفيد منه علو رتبتها على كافة الأنبياء والرسل، مع تأكيدنا أن النص يحمل دلالة تفضيلها على سائر البشر بمن فيهم الأنبياء، إلا أن المقصد في النّص الشّريف هو التكافؤ بين الزهراء (عليها السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث أن الله لو لم يخلقه كفؤاً لها لما كان لها غيره كفء، ومن هنا فلابد أن نجعل هذا المقصد هو المحور في البحث ونقطة التركيز فيه، لنستلّ منه دلالات تناسب القام.

ما هو ذلك التكافؤ بين الزهراء (ع) والإمام علي (ع)؟

قبل أن نبوح بذكر عنوان التكافؤ المستفاد من النصّ، لابد أن نذكر أننا أمام تغاير بين الشخصيتين المقدّستين، وبملاحظة ذلك التغاير يصحّ حمل النصّ على سائر أنواع التكافؤ فيما سوى ذلك.

ويمكن أن نتصوّر التباين بين الإمام علي (ع) والصديق الزهراء (ع) في الجهات التالية:

1 – الاختلاف الناشئ عن اختلاف الجنس، فليس الذكر كالأنثى، فاختصاص كل جنس بصفات من شأنه أن يجعل صفة من الصفات مكرمة للرجل ولكنها تكون مذمّة للمرأة، والعكس صحيح.

2 – الاختلاف الناشئ بسبب طبيعة الأدوار والمهام، التي قد تكون راجعة لتغاير الجنس أو لتغاير الوظيفة المناطة به.

3 – الاختلاف الرُتبي الذي ثبت بالدليل بالتفضيل لأمير المؤمنين (ع) بحسب المشهور، أو ما ثبت بالخصائص التي ثبتت لكليهما على حده، فللصديقة الطاهرة خصائص تفرّدت بها، ولأمير المؤمنين (ع) خصائص تفرّد بها.

نذكر هذه الجهات الثلاث من دون الإطناب فيها والتدليل عليها، لنتقدّم بالبحث إلى النتيجة المرجوّة، وهي ما هو نوع التكافؤ بينهما صلوات الله عليهما؟

التكافؤ الرسالي

بعدما ثبت أن الكفاءة من ناحية اللغة تفيد التساوي والمماثلة، وبعدما أخرجنا ما خرج منها بالدليل، خرجنا بإفادتها للعموم فيما دون المستثنيات المذكورة، أي أن التكافؤ هو تكافؤ رسالي بامتياز، أي ثبوت التساوي والمماثلة في الصفات الرسالية المتّصلة بالعلاقة بالدين وبكل ما يرتبط به معرفياً وفاعلية.

ولذلك عزّز نصّ الرّواية ذلك المعنى بنفي وجود الكفء لفاطمة (سلام الله عليها) حتى من آدم ومَن بعده من كافة الخلق بمن فيهم الأنبياء، وقد ثبت بالدليل أن الإمام علي (عليه السلام) له علوّ المنزلة على كافة الأنبياء باستثناء خاتم (صلى الله عليه وآله).

وما نقوله في التكافؤ الرسالي هو تماماً كالتعادل بين القرآن وأهل البيت (عليهم السلام)، فإن قولنا أنهم عِدل القرآن، أي الانطباق التام دون ملاحظة الأوّلية والآخروية، أو الأصغر والأكبر أو الصامت والناطق، فهم (سلام الله عليهم) تراجمة الكتاب العزيز، وهم أفضل أمثاله والقمّة في مكارمه، وسيرتهم هي التعبير الأصفى عن آياته.

التكافؤ كتاب جديد عن فاطمة

عندما نقرأ النّص من هذه الجهة، فإننا نرى أنه كنز ثمين نعبّر عنه بكتاب جديد يتحدّث عن الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فيما لم يذكر لنا التاريخ أثراً عنه، وفيما خفي أو أُخفي عن البشر في حقها سلام الله عليها.

نعي تماماً أن فضائلها سلام الله عليها قد ثبتت عند كافة المسلمين، وفيها من الدلالات العظيمة العميقة فيما يتصل بمحوريتها الإيمانية وبفضائلها المتجلية في ساحة المجتمع، وبأدوارها وجهادها، وبمقامها في عالم الآخرة، لكن كل ذلك لا يفي بجزء يسير من حقيقتها وحقيقة فضلها وسمو ذاتها، وذلك إما بسبب الظروف الحرجة التي مرّت على الأمة الإسلامية، أو بسبب تقصير الأمة في حق أهل البيت (عليهم السلام) أو بسبب عدم قابلية إيمان الأمة لاستيعاب حقائقها الباهرة، أو لغير ذلك من أسباب، ولكن ذلك لا يمنع من البحث عن المزيد لنترقّى بمعرفتها في عالم الدنيا وعالم الآخرة.

من خلال إثبات التكافؤ الرسالي بين الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وبين أمير المؤمنين (عليه السلام)، تنبجس في عالم المعرفة عيون ملئا بالمعارف، وتتدفق منها ينابيع الفضائل، وتتجلّى أمامنا مزيد من الصفات العظمى لشخصية سيدتنا ومولاتنا الزهراء البتول (عليها السلام)، فأن يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) كفؤاً للزهراء (عليها السلام) يعني أن كل ما جاد به التاريخ وما تضمّنته كُتب الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن الزهراء (عليها السلام) تماثله فيه وتقف معه على حد سواء، باستثناء ما ذكرنا خرجوه موضوعياً.

وقد نجد اشتراك النّورين في العظمة في بعض ما روي، وهو يشير ويعزّز ما استظهرناه، كالاشتراك في نزول الآيات وما ثبت من خلالها من مآثر، كآية التطهير وآية الإيثار، وفي إشارة بليغة إلى ما نحن في صدده، يحدّثنا الإمام الصادق (عليه السلام) بذكر فضيلة الزهد في الإمام علي والزهراء (عليهما السلام) معاً، بنظام المقابلة المتكافئة والاختصاص الوظيفي، إذ يقول كما في المناقب والبحار:

(كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحطب ويستسقي ويكنس، وكانت فاطمة (عليها السلام) تطحن وتعجن وتخبز).

أي أن فاطمة الزهراء كبعلها علي أمير المؤمنين في التواضع الجمّ في زمن شياع الخدم والعبيد والجواري، إلا أنه تمظهر في كل شخص بحسب ما تقتضيه المهام والوظائف.

فهرس كتاب فاطمة

إن التكافؤ بين النورين يضع بين أيدينا كتاباً جديداً لم يُدوّن في سيرة فاطمة (سلام الله عليها)، وهو عبارة عن موسوعة في المعارف والفضائل التي ثبتت لبعلها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبذلك تتجلّى أمامنا صفات إضافية لسيدتنا الصديقة البتول (عليها السلام).

وكما ملأت فضائل أمير المؤمنين الخافقين، فكذلك هي فضائل البتول، فلا يمكن أن ندوّنها ونحصرها في هذه السطور، إلا أن ما يمكن أن نذكره على سبيل الإلماع والإيضاح هو:

إنه كما كان الإمام علي (عليه السلام) أقضا الناس وأعلمهم وأفقههم وأحكمهم، فكذلك هي الصديقة (عليها السلام) في كتابها السرّي.

وكما كان أكثر الناس تواضعاً، يصب الماء على يد الضيف، ويحمل التمر وأحمال العيال، ويجلس مع الفقير والمعوز، ويمشي في الطريق وحده ويرشد الضال، فكذلك هي السيرة المخفية للصديقة الطاهرة في تواضعها وخدمتها.

وكما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كريماً سخياً، يصوم ويطوي جائعاً، ويؤثر الناس على نفسه، ويعمل بيده ثم يتصدق بأجرته، ولم يردّ سائلاً، ولم يخيّب مؤملاً، فكذلك هي صفحات تاريخ سيدتنا البتول (عليها السلام) غير المدوّنة.

وإذا أردت معرفة سيرة سيدة النساء في مطعمها ومشربها، وعبادتها وإخلاصها واستجابة دعائها، وفي حلمها وصفحها وإعانتها، وفي ميدان السياسة والتدبير، تتبّع سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) لتنكشف لك الصحائف الغائبة عن الأنظار.

وما وُصف به أمير المؤمنين (عليه السلام) بنحو عام على لسان عدي بن حاتم أمام معاوية، قوله:

(كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول عدلاً، ويحكم فصلاً، تنفجر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا.. على أن قال: وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويدنينا إذا أتيناه، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلّمه لهيبته ولا رفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسّم فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظّم الدين، ويتحبّب إلى المساكين، لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله..).

وعلى ذلك فقس، وعلى هذا الأثر فانتهج، فسترى كتاب فاطمة السرّي غير المدوّن قد ظهرت حروفه من نور، يكوّن موسوعة جديدة في سيرتها المباركة، لأن مآثر أمير المؤمنين (عليه السلام) قد استطالت في أفق المعرفة حتى اعترف بها المعاندون، واغترف منها الموالون.

فسلام على صاحبة العمر القصير، والأثر المديد.

من مؤلفاتنا