مقال: الثورات بين التحرك الجماهيري وحاكمية النخبة

b48نشرت مجلة البصائر الدراساتية في عددها رقم 48 مقالاً للسيد محمود الموسوي تحت عنوان: (الثورات بين التحرك الجماهيري وحاكمية النخبة) ضمن ملفها حول الثورات العربية.

.

 

وهنا نص المقال

الثورات بين التحرك الجماهيري وحاكمية النخبة

السيد محمود الموسوي

إن ما قد جرى في العالم العربي والإسلامي من حراك ثوري وتغييري بغية إصلاح وضع الأمة مطالباً بالكرامة وتوفير مناخات الحرية وتعديل ظروف العيش الكريم وتحقيق العدالة والإنصاف، كما في تونس ومصر والبحرين وليبيا واليمن منذ مطلع عام 2011 الميلادي، وما نلاحظه من تأثير لذلك الحراك الضاغط على سياسات مستبدة ظالمة عاثت في الأرض فساداً حتى أهلكت الحرث والنسل، كل ذلك يقودنا إلى الحديث عن العقليات التي تشكل الرؤى وتغذي المجتمع لتصيغه من خلال بث أفكارها فيه. تلك العقليات التي تمتلك نظرة في التحولات التاريخية، وتقلبات السياسة، وبالتالي فإنها تقوم بالتبشير لتلك الرؤية في خطابها الملقى على الجماهير باعتبارها قيادة معرفية.

وإن أهمية دراسة هذا الخطاب في بعده الناظر للتحولات السياسية، من الأهمية بمكان، باعتباره مؤثراً على العقلية المجتمعية، مما يحدد مدى استجابتها لتلك التحولات، وإلى مدى اغتنامها للفرص التاريخية التي تتاح للأمم بين فترة وأخرى، وفي الأغلب لا تكون تلك الفرص متجددة بشكل سريع، وإنما هي ضمن نظام أن (الفرصة سريعة الفوت، بطيئة العود)[1] كما يقول الإمام علي (عليه السلام).

والسؤال هنا: كيف تنظر تلك العقليات إلى مجريات الأحداث وتحولات الواقع السياسي؟ وبأي منظار وآليات تعمل على تفسيره؟

من الواضح أن هناك عقليتان تقومان بقراءة للواقع:

الأولى: العقلية المتأثرة بالحدث نفسه، وبالتحولات ذاتها، فتعمل على صياغة فكرها وثقافتها بناء على المعطيات التي تلامسها، وهذه العقلية إنما تخضع للواقع، وتحاول الملائمة بينه وبين ما تؤمن به من فكر وعقيدة في محاولة استقرابية.

وهي ذاتها العقلية البراغماتية أو الذرائعية التي تتبنى المذهب الفلسفي السياسي الذي لا يقوم على أي تفسير أيدلوجي لحركة المجتمع والتاريخ، وإنما ينظر إلى النتائج الآنية، فنرى أن البعض من الداخل الإسلامي يتبنى هذه النظرية دون أن يعي حقيقتها، أو دون أن يصرّح بها.

الثانية: العقلية التي تقرأ الواقع من خلال السنن الإلهية والسنن التاريخية الثابتة، لتكتشف أسرار التغيير لتبني من خلاله التحرك، معزّزة كل ذلك بالثابت من رؤاها وعقيدتها، التي لا تقبل التغيير ولا التحويل، باعتبارها سنن (تاريخية) إلهية.

إن العقلية السُنَنية التي تكتشف السنن وتؤمن بثبوتها فتتبع الأسباب، هي ذاتها البصيرة النافذة للأحداث والوقائع، فلا تنظر للأحداث المؤثرة في الحراك الاجتماعي والسياسي إلا كتطبيقات عملية واقعية للسنن، فإن: الظالم مآله إلى الهلاك وكلما أمعن الظالم في ظلمه فإن أجله يقترب، وإن الإرادة والتعاون يصنعان المعجزات في التغيير. فلا ينخدع ذو البصيرة بزخم الإعلام ولا بدعايات الأنظمة الجائرة، ولا يخاف من تهديداتهم، ولا يتنازل على طموح التغيير.

إن الله تعالى ذكر في كتابه في عشر آيات متطابقة نصاً هذه الحقيقة: إِنَّ (اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[2]، ناهيك عن ورود المعنى نفسه في أشكال متعددة في آيات عديدة، وقد ذكر الله عز وجل: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ)[3].

فلذلك فإن صاحب البصيرة لا يستسلم للواقع في رؤاه ولا يتنازل عن طموح التغيير، فهو يعمل وينادي على الدوام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[4]. ليأخذ الناس بالأسباب التي توصلهم إلى حياة الكرامة، كما كان ذو القرنين، الذي قال عنه تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً)[5].

فهنالك سنة كبرى تتحرك خلالها سائر السنن، وهي سنة التحوّل والتغير في حال الأمم والمجتمعات من حال إلى حال، حيث يداول الله تعالى الأيام بينهم قوة وضعفاً، صحة ومرضاً، فقراً وغنى، تقدماً وتخلفاً، انتصاراً وهزيمة، وتتجلى تلك السنة الكبرى في قول الله عز وجل: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[6].

إن المشكلة تكمن في تلك العقليات التي تتأثر بالواقع فيكون الواقع هو الذي يصيغ ثقافتها ورؤاها، فتراهم ينتشون وينتفضون وينادون بإمكان التغيير حينما يعيشون انتصارات الآخرين، وتلك الانتصارات التي يعيشها البشر بلا شك تبعث برسائل للعقل لعله ينفض عنه غبار الهزيمة، كما حدث من انتصار المقاومة في لبنان على العدو الإسرائيلي، وكما حدث في تونس من هروب الدكتاتورية، وعواصف التغيير في مصر، إلا أن هذه العقلية التي تركّب قناعاتها على التحولات وتكون آليات تفكيرها هي انتصارات الآخرين، لا يمكن الوثوق بها في واقع الظلم وحياة الكبت، ذلك الوقت الذي يحتاج فيه الإنسان إلى الحركة من أجل تغيير واقعه أكثر من أي شيء آخر.

ألم تُغلب الروم؟

نعم لقد غُلبت الروم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) حيث هزمهم الفرس المجوس آنذاك، وقد أصاب المؤمنين غمّ وحزن، لأن الروم أقرب إلى المسلمين باعتبارهم أهل كتاب، ولكن الله تعالى أخبرهم بسننه وبوعده حيث قال: (وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

إن القرآن الكريم يعطينا شواهد وتحولات كانت في المجتمع الإسلامي لكي نستوعب كيفية حركة العقل، ونعي تماماً ما هي آليات صياغة الوعي وعلاقته بالواقع. وتلك الشواهد القرآنية تؤسس لثوابت حركية يصاغ من خلالها الفكر، ويمكن تتبع الآيات القرآنية ليجد المتتبع وعد الله للمؤمنين بوراثة الأرض، وبالنصر عندما ينصرون الله، ووعد الظالمين بالهلاك وما شابه ذلك، مما يحرر الإنسان من عقلية الانهزام أمام الواقع،  وعدم الاستسلام لظروفه وتحولاته التي هي محل تغير دائم باعتبارها حدث طارئ. وتحقيق ذلك ضمن السنة القرآنية التي صرح بها القرآن الكريم في هذا الصدد في قول الله عز وجل: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ)[7].

فمع الأسف الشديد إننا رأينا وقرأنا ومنذ زمن بعيد وإلى وقتنا الراهن، كيف أن بعض المنظّرين والباحثين ينقلبون على أعقابهم في أوضاع يكون الناس أحوج إليهم فيه من غيرها، فيشيعون ثقافة التبرير والاستسلام باسم عدم القدرة وباسم السلام..

تكمن خطورة هذه العقلية في أنها لا تكتفي بتبرير تحركاتها، بل تسعى لإعادة قراءة التاريخ بنَفس انهزامي، ذلك التاريخ المعصوم الذي تجلّت فيه بصيرة المعصوم المتطابقة مع الوحي المقدّس.

فيكون عند أولئك أن أهل البيت (عليهم السلام) ابتداء بالإمام علي (ع) وانتهاء بالإمام العسكري قد صالحوا ولم ينتهجوا نهج الجهاد ومقاومة الحكام الظلمة، ماعدا الإمام الحسين (ع) في آخر عمره اضطر لذلك ـ حسب ادعائهم ـ ولم يتفكروا في أن الإمام الحسين (ع)إنما كان إضراره للمواجهة بالسيف، وليس في مبدأ السعي نحو التغيير، فأن التغيير وإرادته هو مبدأ يقرره الواقع واحتياجاته، وهو الذي قال (وأنا أحق من غيّر).

من الواضح أن عقلية التأثر بالتحولات السياسية والمأسورة بالواقع، تتبع منهجاً تجزيئياً في قراءة التاريخ، لأن القراءة الاستيعابية لحركة المعصوم بأكملها أو لحياة المعصومين كوحدة واحدة ومطابقتها مع القرآن الكريم لا تخدم هذا التوجه.

كل من أسره الواقع وشعر بصعوبة التغيير نادى بأن هذه مرحلة من مراحل الاضطرار، فيؤسس رؤاه تبعاً لذلك الشعور أو التشخيص، والحال أن زمن الاضطرار الذي واجهه أهل البيت (ع) كانت فيه الإبادة للخلّص الذين لا يوجد بديلاً لهم، وكان الإسلام والولاية في خطر، أما الآن فإن مجالات الاضطرار ضيقة جداً، ومبدأ المستحيل قد استحال، هذا ما تثبته التحولات من حولنا، فسقوط الطاغية صدام وهزيمة إسرائيل وهروب الدكتاتور التونسي، وإسقاط الدكتاتور المصري ومحاكمته، ومن قبلهم طوفان الثورة الإسلامية في إيران، كل تلك التحولات تثبت أن التغيير ممكن وأنه لا اضطرار في العمل تحت قباب القصور.

عندما يكون خيار المتصدي للشأن السياسي هو العمل مع الظالمين بحسب تشخيصه، فإن ذلك يكون أهون من خيار المفكر والمثقف والعالم الذي يختار الخيار الأضعف، لأنه يبدأ بالتأسيس الفكري لخياراته وبإعادة قراءة التاريخ وفق مساراته الجديدة، وذلك يعد تزييفاً للوعي وظلم لتاريخ أهل البيت (ع)، وظلم للعباد.

إن صاحب البصيرة والعارف بالسنن الإلهية يستبشر بالتحولات السياسية التي تجلّت فيها روح الكرامة لتؤسس لتغيير الظلم إلى العدل، ويسعى إلى التبليغ بهذه الحقيقة ليغذيها الشعوب قيادة منه للعقول، وصياغة للوعي، أما الذين يصيغ الواقع وعيهم، فلابد أن تكون هذه التحولات بمثابة ثورة وانتفاضة تزيح التوجسات والتراجعات عنهم، لتعيد العقل إلى رشده بإتباعه سنن الله تعالى التي لا تقبل التبديل أو التحويل.

الثورات بين التحرك الجماهيري وحاكمية النخبة

القراءة الجديدة التي ينبغي أن يسلط عليها الضوء في المشهد الراهن للثورات العربية المتتالية، تحتم علينا أن ننزل للتصنيف المحرك لتلك الثورات، والقوى الدافعة باتجاه التغيير والتحول السريع، ألا وهما: الجماهير والنخبة، ومن ثم معالجة أهم إشكالية في العلاقة بينهما، وهي الصراع بين القوى الجماهيرية والقوى المركزية المتمثلة في النخبة، وهي القيادة المعرفية المفترضة للجماهير، إن كان ثمة صراع.

لقد برزت مجموعة من التحليلات التي تقول بأن الجماهير تجاوزت قياداتها المعرفية والنخب، لأن النخب عبر تنظيراتها ومساوماتها، ومن خلال حركتها البطيئة في المطالبة بالحقوق، لا تلبي حاجات الناس، لهذا فقد انفجر الوضع وأصبحت الثورات ثورات جماهيرية بامتياز، ولم يعد يؤثر فيها البعد المركزي والحزبي أو القيادي الشخصي. ولكننا إذا تفحّصنا حراك الشعوب في ثوراتها الأخيرة سوف نجد مجموعة من الملامح المهمة التي تراكم فيها الوعي الكبير، وهذا التراكم هو بفعل وجهود النخبة بلا أدنى شك.

لا يمكن لأي قارئ لمسارات الوعي في المجتمعات أن يتجاهل جهود النخبة من العلماء والمفكرين في صياغة شخصية الأمة،  فإن أي وعي يتحول إلى وعي جماهيري فهو يعني بالضرورة أن هنالك بعداً ملهماً ووعياً شاملاً، استوعب المساحات الواسعة من العقول، وإن كان ذلك الوعي من غير ملامسة مباشرة لمضان المعرفة والوعي، وذلك الوعي لم يأتِ من فراغ، بل أتى بفعل تراكم جهود عبر عمل امتد لسنين، واتسعت رقعته لمساحات واسعة.

وبفعل أدوات الاتصال والإعلام الذي أصبح من ضروريات الحياة اليومية لأغلب الشعوب، فإن الوعي يتسرب إلى العقول ويصيغها بالمواد التي تبث فيها، وذلك الوعي هو فعل النخبة، فالنخبة التي تحمل في جعبتها خطاباً حضارياً ورامياً للإصلاح في الأمة قد حصل على متلق دائم، وبشكل أوسع، وإن تمثل ذلك بصورة إجمالية مغايرة لخصوصية الانتماء الحزبي، فإن هذا النوع من الوعي هو نتاج تراكم المعرفة العامة ونتاج تظافر الجهود وتنوعها.

ويمكننا أن ندلل على ذلك،  ونكتشف حقيقة تأثير النخب في الوعي وبالتالي نخرج بنتيجة مهمة وهي أن للنخبة من العلماء والمفكرين دور في الثورات العربية والحراك الذي يقوم بمطالب الإصلاح في الأمة، من خلال ملاحظة مجموعة من الجوانب التي أصبحت عوامل مشتركة في ثورات الشعوب العربية الأخيرة ـ تونس، مصر، ليبيا، اليمن، البحرين ـ وهي كالتالي:

1/ هناك إجماع على المطالبة بالكرامة الإنسانية وتقدير إنسانية الإنسان وتعزيز مكانته ورد الاعتبار لشخصيته المنتهكة، وتقديم تلك الكرامة على المطالبات الآنية المنحصرة في الخبز والقوت اليومي، وقد اعتبرت الثورات العربية تلك المشكلات المعيشية إنما هي نتيجة وليست سبباً للحال الذي هم عليه، فالكرامة مقدمة على العيش في الذلة، وقد شاهد الناس تسجيل الفيديو لتلك الفتاة المصرية التي تصرخ: إلى متى سيكون همّنا هو المعاش، فنحن بشر؟!. وقد أصدرت القوى الشبابية في إحدى هذه الدول فيلماً وثائقياً عن الكرامة يظهر فيه شيخاَ طاعناً في السن يردّد: إن رغيف خبز صغير يكفيني، ولكني أريد أن أعيش بكرامة.

2/ المطالبة بالعدالة والمساواة ورفض التمييز على أسس طائفية أو عرقية في مختلف الشؤون، فقد قامت الثورات تطالب بأن يكون كل فرد له من الفرص ما للفرد الآخر دون تمييز، ودون أن يبخس أحد حقه في ما يريد أن يبلغه ويحققه، سواء كان ذلك في التعليم أو في العمل أو في المشاركة السياسية أو غير ذلك.

3/ من المسائل المهمة واللافتة هي مطالبة الشعوب بالوطنية الصادقة وبالاستقلالية وعدم التبعية للدول المستغلة، فالوعي الجماهيري العام يعي تماماً ما الذي تعنيه التبعية، فهو يريد أن يمثل نفسه ويصنع شخصيته ويحتفظ بخصوصياته وينطلق بها في المشاركة في مسيرة الحضارة البشرية، فلا يكتفي بالحصول على وسائل الرفاه، وإنما لابد أن يقرر مصيره ويقرر دوره في الحياة السياسية بخصوص القضايا التي يؤمن بها، تأيداً ورفضاً.

وبذلك ظهرت مقولات أن الوطنية هي الانتماء للوطن وحب الوطن هو حب لمصلحة من هم في الوطن، وأن التبعية هي خيانة للوطن، وقد فرقت الثورات في خطابها بين الولاء للوطن والولاء للحاكم.

4/ لقد حرصت الثورات على مبدأ مهم من مبادئ العمل في آلياته، وهو مبدأ السلمية في التحرك، والعمل على الاستفادة من الحقوق المكفولة دولياً للإنسان، ومنها حق التظاهر وحق التعبير عن الرأي وحق تقرير المصير وحق المشاركة السياسية وما إلى ذلك من الممارسات التي من حق الإنسان أن يمارسها، وقد سارت بالفعل كافة الثورات على هذا المنوال، إلا ما اضطرت إليه الثورة في ليبيا اضطراراً في ظروف موضوعية خاصة.

ومن معالم التحرك السلمي الذي مورس في الثورات الأخيرة هو العصيان المدني وتوابعه من الضغوط التي تمارس في العمل السلمي للوصول إلى الأهداف المنشودة.

5/ كما أن الاستفادة من الإعلام ووسائله الحديثة هو ما أشعل تلك الثورات وهو ما ربط بين الجمهور دون الحاجة إلى مبان أو قاعات مؤتمرات، فتلك الوسائل التي يحاول الغرب أن يؤثر من خلالها على الجماهير والشعوب الإسلامية والعربية، استطاعت الشعوب أن تغتنم وفرتها وسهولة الوصول إليها في التحشيد وفي التنظيم وفي إيصال صوت الثورة إلى أبعد مدى، بل أصبحت الأداة الإعلامية هي محل للصراع، ومن خلالها يمكن إثبات الوجود والمصداقية في تحد كبير للإعلام الرسمي المحتكر من قبل السلطات والذي يدعم توجهاتها الخاصة.

6/ التواصل مع المنظمات الحقوقية الدولية هو أمر مشترك أيضاً لكافة الثورات، فقد تمكنت الثورات من التواصل الإيجابي لبيان مصداقيتها وإظهار مظلوميتها، لتكون تلك المنظمات وسيلة ضغط  مهمة وفاعلة في الثورة.

7/ كما أنه من المهم أن نؤكد على شعارات الثورة ونداءاتها التي تعبر عن ثقافتها ووعيها وخصوصيتها الدينية، فللثورات شعارات تعبر عن مطالبها السياسية المباشرة، سواء الإصلاح والعدالة أو الرحيل والمحاكمة، وهنالك شعارات تعبر عن ثقافة الشعوب ووعيهم وانتماءاتهم كشعار (الله أكبر) أو (هيهات منا الذلة) أو (منصورين والناصر الله)، كما لاحظنا أن من أهم المظاهر التي كانت في عمق الحدث هي الصلاة والدعاء، ففي تونس أقيمت أول صلاة جماعة بعد انتصار الثورة، والتي لم يسمح لهم بإقامتها منذ عقود من الزمن، كما أن المظهر الغالب في ميدان التحرير في مصر هو صلاة الجماعة والجمعة والدعاء الجماعي لرب العالمين بالخلاص والنصر، وهكذا في ليبيا حيث عبّر الثوار عن تواجدهم بصلاة الجمعة. وكذلك في اليمن والبحرين.

فمن خلال عرض هذه النقاط المشتركة بين ثورات الشعوب يتضح لنا أن هذه الثورات لم تكن ردة فعل أو تمرد من الشعوب على العلماء والقادة والأحزاب،  وإنما هي حراك جامع ومعزّز ومستفيد من كل تلك القوى، ولكنه سيل جارف ولحظة من اللحظات التاريخية المهمة التي استفادت منها الشعوب لتمثل وعيها الذي اكتسبته من جهود علمائها ومفكريها، وبالتالي فإننا لا يمكن أن نبخس حق العلماء والمفكرين جهودهم في هذه الثورات.

فلقد كانت الثورات الشعبية الأخيرة عبارة عن استجابة إجمالية وبشكل غير مباشر للقيادة المعرفية، التي تمثلت في التوجيهات ضمن الخطاب الجماهيري، أو الدراسات التأصيلية والبحوث التي تعالج مشاكل الأمة وتبين عوامل تخلفها ومقومات نهوضها الحضاري.

 

 

 

 



[1] / نهج البلاغة، الإمام علي بين أبي طالب (عليه السلام).

[2] / سورة المائدة، آية 51

[3] / سورة آل عمران، آية 160

[4] / سورة محمد، آية 7

[5] / سورة الكهف، آية 84و85

[6] / سورة آل عمران، آية 140

[7] / سورة الأنبياء ، آية11

 

 

 

basaer48

من مؤلفاتنا