دراسة: الثقافة الرسالية كنظرية في العلوم الاجتماعية

bsaer50مجلة البصائر الدراساتية في عددها الخمسين تنشر دراسة جديدة للسيد محمود الموسوي، تحت عنوان (الثقافة الرسالية كنظرية في العلوم الإجتماعية.. دلالات الثقافة الرسالية).

.

الثقافة الرسالية كنظرية في العلوم الاجتماعية

دلالات الثقافة الرسالية

محمود الموسوي

مفتتح

البحث عن الثقافة الرسالية كنظرية في العلوم الاجتماعية، واستيضاح ما إذا كانت صالحة لأن تكون كذلك فعلاً، يحتاج منّا إلى بحث متسلسل، حول الثقافة الرسالية كثقافة لها مدلولاتها، وتحديد حقولها وأطر حركتها المعرفية، ثم ننتقل إلى البحث عن تلك الثقافة كنظرية لها مديات واسهامات واقعية في الحياة، بما فيها العلوم الاجتماعية المتداولة. وحيث أننا بحثنا مصطلح الثقافة الرسالية تاريخاً وتطوراً في دراسة سابقة[1]، فإننا نقدّم في هذه الدراسة بحثاً دلالياً، نسبر من خلاله غور المعنى بمقاربة نستلهمها من الأدوات المعرفية للفكر الإسلامي الرسالي. كما أننا سوف نعمّق البحث ونتقدّم به في دراسة قادمة، للبحث حول المجالات والمديات[2] التي تستوعبها الثقافة الرسالية بوصفها نظرية لقراءة وصياغة حقولها في العلوم الاجتماعية.

تمهيد

          الثقافة، أية ثقافة فهي تعنى بالإنسان العاقل في كافة النواحي، والسبل الحركية التي يتجه نحوها، وكل أنواع الفعل الذي يصدر عنه ويؤدّيه، بما يشمل رؤاه وأفعاله وشبكة العلاقات التي ينخرط فيها، لأن الثقافة هي نوع معرفي أو أداة معرفية تخاطب العقل، وتتعاطى مع حاسّة التفكير لدى الإنسان، وهي بتعبير آخر: الصدى الذي يتردّد عن الفعل العقلي البشري، وبهذا العقل قد كرّم الله الإنسان وفضّله على من خلق تفضيلاً، حيث علّمه البيان، كما في قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[3]، وقال عز وجل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[4]، وقد خاطبه بالرسالات المساوية وبعث إليه بالرسل والأنبياء، وهكذا عندما علّم الله آدم الأسماء كلها جعله خليفة في الأرض وأسجد ملائكته له من هذا الجانب، حيث قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)[5]، وهذه الحقيقة لا يختلف عليها إثنان، ومن هذا المنطلق فإننا سنكون في رحلة استكشاف للثقافة الرسالية، كثقافة معبرة عن ماهية التفكير، كمنتج صادر عن الإمعان العقلي، فسنقوم بالعمل على تفكيكها والحفر في مضامينها لإستبيان مداليلها وظلالها.

المشترك في تعاريف الثقافة

عندما نلاحظ التعاريف الواسعة التي سيقت للتعبير عن مفهوم الثقافة عند علماء الاجتماع والتربية وغيرهم، نرى أنهم ينطلقون في تعريفاتهم من المكوّنات الفعلية لسلوك الإنسان وفق الواقع الذي يعيشه والمحيط الذي يتعايش معه ذلك الإنسان، أي أنهم يحاولون اكتشاف الأسباب التي تؤثّر على الإنسان في تحركاته بغضّ النظر عن ماهيتها ومصداقيتها، فعلى سبيل المثال يقول (تيلور) صاحب أقدم تعريف علمي للثقافة، بأنها (ذلك الكل المركّب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفنّ والأخلاق والقانون والعرف وكل المقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع)[6]، فهو ينظر لتلك المعارف المكتسبة بأنواعها من حيثية عضوية الإنسان في المجتمع الذي ينتمي إليه، وبغض النظر عن صحة وعدم صحة منشأ التلقّي الذي ذكره تيلور واختلافنا معه فيه، إلا أنه يعبّر عن الثقافة كماهية، بذلك الكم المعرفي المؤثر في حياة الإنسان، ويلحظ جانباً مهماً من جوانبها وهو جانب التأثير في حياة الإنسان نفسه، ومن هذا المنطلق إذا طالعنا التعريفات الكثيرة الأخرى التي تعبّر عن الثقافة بالمعاير والقيم والأنساق والرؤى والطرائق والسلوكيات والقوانين وغيرها، فهي تشترك في أن الثقافة إنما هي في مجملها (منظومة الرؤى والأفكار المؤّثرة في حياة الإنسان والتي تحدّد مسار سلوكه وطبيعة مواقفه)[7].

فالنتيجة التي خرج بها السيد المدرّسي[8] في تعريفه هي المقدار المشترك والمتفق عليه، والمتعلّق بجانب ماهيتها المحرّكة في الفعل الإنساني والدافع لمتبنياته والمحدّد لخياراته لترسم طريقه وأداءه في الحياة، بغض النظر عن مصدرها الذي تحدثنا عنه في بحث سابق وسوف نتعرّض له لاحقاً.

الثقافة في معطيات الفكر الإسلامي

لسنا في هذا المبحث بصدد التأصيل لكلمة (الثقافة) كلفظ عربي عن طريق المعاجم العربية أو عن طريق استعمالات أهل اللغة حصراً، فإن ذلك لا يجدي المزيد من النفع في البحوث المراد لها أن تدفع باتجاه تقديم رؤى معاصرة في خدمة الإنسان وحياته، باعتباره المعنى المعجمي الواضح والمتكامل مفقود كتنصيص متطابق مع استعمالاتها المعاصرة، إلا أننا سوف نتطرّق للبحث اللغوي الذي يكون منطلقاً في رحاب المعنى، والبحث عن الآفاق المعنوية لكلمة الثقافة في الارتكاز العام ومقاربتها للمعنى في المصادر الإسلامية.

فإن أول من طابق كلمة الثقافة مع الإستخدامات الأجنبية لها، إنما ذكر أنه طابق المعنى المقارب لها، وهو الكاتب (سلامة موسى ففي مقالة له حول الثقافة والحضارة، نشرها في مجلة الهلال المصرية سنة 1927م، حيث اعتبر نفسه أول من أفشى لفظ الثقافة، وحسب قوله: (كنت أول من أفشى لفظة الثقافة في الأدب العربي الحديث، ولم أكن أنا الذي سكّها بنفسه فإني انتحلتها من ابن خلدون، وإذ وجدته يستعملها في معنى شبيه بلفظ (Culture) الشائعة في الأدب الأوروبي)[9]. فهذه المقاربة اجتهاد من قبل سلامة موسى، و لذلك علينا أن نبحث عن المشتركات المعنوية منطلقين من الغاية العامة للثقافة وهي ترشيد سلوك الإنسان بالمعارف، فنقوم بمطابقة تلك المعاني بالمصطلحات التي يختزنها ارثنا الإسلامي الواسع، والذي جاء بألفاظ عربية أعطاها العمق في المداليل، ولذلك فإن من الخطأ إيكال التأسيس لنظرية في الثقافة على قلّة البحوث التي تحفر في كلمة (ثقافة) من حيث كونها لفظاً لغوياً[10]، و نحن بهذا الرأي لا نلغي دورَ المدلول اللغوي لكلمة الثقافة، وإنما نعطي الجانبَ المعنوي أهمية أكبر ومساحة أوسع لكون هذا اللفظ هو في الأساس مقاربة واجتهاداً من شخص ما للمعنى السائد للثقافة في المجال الغربي، خصوصاً إذا عرفنا أن هذا الشخص علماني التوجّه، أي أنه لم يكن ملتفتاً للألفاظ القرآنية ولم يكن متفاعلاً معها بشكل خاص، ولذلك يتعيّن علينا أن نرى الكلمات والألفاظ البديلة التي جاء بها الإسلام كمنظومة فكرية من خلال معطيات القرآن الكريم والسنة المطهّرة للمعصومين (ع) والحفر في تلك الألفاظ واستخراج مداليلها وايحاءاتها والسبر في أغوارها. كمحاولة أخرى للمقاربة المعنوية مع استخداماتها.

ونشير في هذا السياق إلى ملاحظة مهمّة، وهي أن هناك حالة انبهار أو أسر لكثير من المثقفين والمفكرين العرب في بحوثهم الحديثة تجاه البحوث الغربية أو المتأثرة بها، ولذلك فإن بعض الكتّاب، لا يراعي طبيعة الخطاب وخصائصه في جانب المفردات في الفكر الإسلامي، فيلغي وجود مواد معرفية في الإطار الإسلامي كالتي وجدت في ساحة التداول الغربي لمجرد عدم وجود تطابق في اللفظ أو الشكل، وكلامنا ينطبق على (الثقافة) من حيث المضمون، فإن البحوث الإسلامية زاخرة برؤى في مجال العلم والنظر والتفكير من جهات عديدة، وحتى صياغتها وإن لم تكن صياغة ذات مواصفات أكاديمية، ولكنها ضمن المناهج الموضوعية المتبعة في العصور التي أنتجت فيها وهي متناغمة ومتسقة مع التداول العلمي آنذاك، فكما أن في علم الاجتماع، جاء البعض ليقول أن ابن خلدون قد أسّسه أو وضع لبناته، بناء على المطابقة الموضوعية في المعنى مع علم الاجتماع الحديث، برغم أنه عرّف اشتغاله بعلم العمران وليس علم الاجتماع، فلابد لنا كذلك أن نلاحظ التشابه المعنوي في الثقافة لنرى هل هنالك كلمة بديلة في التراث الإسلامي، ليس لكي نتظاهر بالإستقلالية، وإنما لكي ننهل من ديننا ما يراد لنا أن نكونه، ولكي نلاحظ خصائصه ومميزاته، لا أن نكون في حالة أسر واستجابة لمقولات غريبة عن المنظومة القيمية الإسلامية، وكما يعبّر عبد الوهاب المسيري في كتابه فقه التحيّز (وقد لاحظت أن العرب المحدّثين لم يضعوا أسس أي علم على الإطلاق، فإذا قالوا في الغرب (علم النفس التنموي) قلنا نحن أيضاً (علم النفس التنموي)، وإذا قالوا (علم النفس الصناعي) رددنا معهم (علم النفس الصناعي)، وإذا قالوا (علم النفس التفكيكي) سارعنا بالقول (علم النفس التفكيكي) أي أننا نردد وراءهم ما يقولون، ونتبنّى ما يستحدثون من علوم، وأما أن نؤسس نحن علوماً جديدة كي نتعامل مع الإشكاليات الخاصة بنا، فهذا ما لم يحدث في تاريخ الحضارة العربية الحديثة)[11] ، ولا شك أن المسيري يقصد هنا المفكرين العرب الذين انبهروا بالحضارة الغربية، وليس علماء الإسلام الذين جدّدوا في الكثير من العلوم.

والخلاصة التي نريد الوصول إليها هي أننا نستعمل كلمة (الثقافة) كمصطلح شائع، وككلمة عربية لها دلالات في المعرفة بنحو ما، إلا أننا لا نقف عند دلالاتها اللغوية الخاصّة، ولا ننحصر في معطياتها وأشكال تداولها بين العلماء المسلمين، لكي لا تأتي بعد ذلك مقولات من البعض، بأن الدين لم يعط مفهوماً واضحاً للثقافة أو أنه يعيش غربة في الوسط الديني!، أو ما شابه ذلك، كالنظريات التي أطلقها محمد أركون، و الجابري، وعلي حرب، فنحن لا نقف عند ذلك الحد اللغوي وإنما ننطلق للمطابقة المعنوية مع المقاصد العامة للثقافة وهي تحديد منظومة الإنسان الفكرية التي ترسم مساره في الحياة، لتنكشف أمامنا المعطيات الحقيقية التي جاء بها الدين الإسلامي.

وذلك ما قدمته الثقافة الرسالية وأضافته، ولم يلتفت إليه الكثير من الباحثين، وتجاهله البعض وقلّل من شأنه آخرون، وكل أولئك صاروا في عملية استجداء لمقولات مجزوءة في الثقافة عند بعض المفكرين، حيث أطلقوا عليها نظريات في الثقافة، كما نجد ذلك واضحاً لدى زكي الميلاد في كتابه (المسألة الثقافة.. من أجل بناء نظرية في الثقافة)، حيث تطرق للعديد من مقولات المفكرين في الثقافة بنوع من التضخيم[12]، ولم يول الثقافة الرسالية اهتماماً بالمستوى المنصف، ولم يتحدث عنها كنظرية أساساً، ولم يأتِ على ذكرها إلا في سياق عابر كإشارة من الإشارات التي أضيفت لمفهوم الثقافة وهي المقاربة بين (الثقافة والبصيرة) وقد وصفها أنها مقتضبة وبدون توسع[13]، والتساؤل الجوهري لكتابه هو (لماذا لم تظهر لدينا نظرية في الثقافة)، وهو مستغرب من أمثاله، ولكننا سنجد من خلال هذه البحوث المميزات والإضافات التي أضافتها الثقافة الرسالية كنموذج في الفكر الإسلامي المعاصر، وسنكتشف بأنها نظرية ذات عمق غائر ومدى مستوعب، ولها إضافات ومميزات رائدة.

الدلالات العامة للثقافة

          لقد عدّ البعض من تعاريف الثقافة 120 تعريفاً، وعدّها البعض إلى 250 تعريفاً[14]، إلا أن تلك التعريفات لم تكن كلها تعريفات حقيقية، فبعضها كان توصيفاً عاماً لها، وبعضها يشير إلى ضرورتها أو إلى مجالاتها أو إلى تداعيات وجودها، ومن تلك التعريفات المتنوعة في بقاع مختلفة من العالم، والتي صدرت من جهات ثقافية متعددة ومختلفة في النظر، نذكر بعض العينات منها:

1/ "الثقافة أسلوب حياة شعب ما، يشمل نماذج تعاقدية من التفكير والسلوك تتضمن قيماً ومعتقدات ومقررات وسلوكاً ومؤسسات سياسية، وأنشطة اقتصادية وما إلى ذلك، تنتقل من جيل إلى جيل عن طريق التعلم وليس عن طريق التوارث الحيوي"[15].

2/ ويعرفها الإنجليزي ادوارد برنت تايلر "الثقافة هي ذلك الكل المؤلف الذي يشمل المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والأعراف وجميع قدرات وعادات الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع"[16].

3/ كان علماء الانثروبولوجيا الأمريكيون حتى عام 1910م يستخدمون مفردة الثقافة للتعبير عن مجموعة من الخصال الخاصة بالمجتمعات القَبَلية. وفي عام 1920م اعتبر روت بنديكت الثقافة بمعنى نموذج من التفكير والعمل يجري خلال أنشطة جماعية من الناس، فيميزهم عن سائر المجاميع البشرية، وفي السنوات الأخيرة أضحت الثقافة مصطلحاً لوصف حالة الإنسان المميزة التي تجعله منسجماً مع محيطه. ويشدد جميع علماء الإنسان على أن الثقافة تشمل السلوكيات المكتسبة والمتعلّمة دون النماذج الوراثية الغرائزية"[17].

4/ "لقد رُصد استخدام مفردة (فهرنك) ـ التي تعني الثقافة ـ في الأدبيات الإيرانية قبل الإسلام وبعده تكراراً، يكتب أحد الباحثين الإيرانيية من ذوي الذوق السليم في دراسة قيمة مايلي (اعتبرها البعض مرادفة للرأي، والذكاء، والعقل، والحجى، وقال البعض الآخر، إنها تعني الحكمة، والعلم، والأدب، والتربية السليمة. ورأى آخرون أنها تعني الفن، والمعرفة، والوعي، والقدرة على تقييم الأشياء، وملكة تمييز السيء أو القبيح من الحسن، وهي في حدود الفضيلة الأخلاقية، ومجموع الصفات الحسنة، والفضائل الروحية والمعنوية، وكل ما يدخل في دائرة الأخلاق، والسلوك، والقول، والفكر الإيجابي. وساقوا تشبيهات واستعارات ليفسروها على أنها (تهذيب الروح) و (سبب تنقية النفس) ومدعاة الرئاسة والإمارة، و (النفع وعدم الإضرار)، و (أساس السمعة الحسنة)، و(سلامة النفس)، و (سبب حيوية الفؤاد)، (نورانية القلب)"[18].

5/ يعرفها المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905 ـ 1973) بأنها: مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقّاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته[19].

6/ ويرى (تيرز) أنها نسق من الرموز التي لها دلالة أو معنى، والتي يكوّنها ويحافظ عليها أفراد المجتمع من أجل تنظيم شؤون حياتهم[20].

7/ وذهب (ماثيو أرنولد) إلى أنها ـ الثقافة ـ محاولتنا الوصول إلى الكمال الشامل عن طريق العلم بأحسن ما في الفكر الإنساني، مما يؤدي إلى رقي البشرية...، والدين من العناصر التي استعان بها الإنسان في محاولته الوصول إلى الكمال[21].

8/ وفي معنى مفردة الثقافة في مختلف اللغات، تشير المعاجم أنها في اللغة الفرنسية مشتقة من الكلمة اللاتينية cultura وتستخدم بمعنى الغرس والإنماء والمعالجة والمراقبة، والاحترام والعبادة، وفي اللغة الإيطالية تفيد مجموعة المعارف والأحوال والمواهب والميول المادية والاجتماعية للإنسان، وفي اللغة الإنجليزية هي مشتقة من culture الفرنسية، وهي بالتالي مشتقة من اللاتينية، بمعنى الغرس والزراعة والإنماء والتعهد والمراقبة، وفي اللغة الروسية بمعنى الشعور الفكري، والظرف الروحي والتصورات الطبيعية للإنسان، وفي اللغة الألمانية kultur هي مجموعة مناهج الحياة لدى الشعوب وقيمهم، وفي اللغة اليوناينة kalliergia بمعنى الجيد والجميل[22].

معطيات اللغة

الثقافة حسب قواميس اللغة العربية فإنها مشتقة من ثقف، وهي تعني سرعة التعلّم و"ثَقِفْتُ الشيءَ حَذَقْتُه، وثَقِفْتُه إذا ظَفِرْتَ به"[23]. وجاء كذلك الإشارة إلى أنها آلة يقوّد بها الإعوجاج، كما في لسان العرب: "والثّقافُ حديدة تكون مع القَوَّاسِ والرَّمّاحِ يُقَوِّمُ بها الشيءَ الـمُعْوَجَّ."[24]. "والثقافُ ما تُسَوَّى به الرماحُ. وتَثْقيفُها: تسويتها[25].

وذكر في مقاييس اللغة حول أصل كلمة الثقافة: (الثاء والقاف والفاء كلمة واحدة إليها يرجع الفروع، وهو إقامة دَرْءِ الشيء.

ويقال ثَقَّفْتُ القناةَ إذا أقَمْتَ عِوَجَها. قال:

نَظَرَ المثقِّفِ في كُعوب قناتِهِ    حَتَّى يقيم ثِقافهُ منآدَها

وثَقِفْتُ هذا الكلامَ من فلانٍ.)[26].

إن معطيات اللغة للثقافة فيما يختص بفعل الإنسان هي صفة عقلية وقوّة إدراكية تستوعب المعارف وتكون قادرة على وعيها، وهي المأخوذة من عبارة الحذق، وهي من جهة أخرى صفة مادية تتمثل في التمكّن من الشيء والإحاطة به.

ومعطيات اللغة فيما يختص بالآلات فإنها تقوم بفعل التسوية والتعديل ليبتعد الشيء عن الاعوجاج من أجل إصابة الهدف والتمكّن من أداء الوظيفة المنشودة.

لذا فإن أصل الفعل (ثقف) هو فعل إيجابي يعنى بالتمكّن من الأمور والإحاطة بها على نحو الصواب أو الإصابة.

الثقافة في النصوص الإسلامية

لقد ورد فعل ثقف في القرآن الكريم في ست آيات، وكلها بمعنى واحد وهو الإيجاد والظفر بالآخر، سواء كان عدواً مريداً للفتنة وفيها خمس آيات، كما في قوله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً). [النساء : 91]

أو العكس من ذلك كأن يظفر الأعداء بالمؤمنين وهي آية واحدة في قوله تعالى: (إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ). [الممتحنة : 2]

وإننا نجد أن الباحثين الذين يستعرضون أصل كلمة الثقافة في النصوص ووردها يكتفون بذكر الآيات القرآنية هذه، ويكتفون بالتعليق على أنها جاءت بمعنى الإيجاد، وهي بالفعل جاءت بهذا المعنى ولكن ذلك لا يعني حصر استخدامها في ذلك، لأنه كما قلنا فقد يكون الفعل فعلاً مادياً وقد يكون فعلاً عقلياً معنوياً، بل أن الإيجاد المقصود في الآيات ليس مجرد الإيجاد وإنما الظفر والإحاطة بالشيء إحاطة تدعوه للتمكّن منه لكي يؤدي الفعل تجاهه.

وبمزيد من البحث في نصوصنا الإسلامية ظفرنا برواية واردة عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ضمن رسالة الحقوق حسب بعض الروايات وهي ليست كالنص المتعارف عليه والمشهور في رسالة الحقوق المتداولة، ولكنه وارد في كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي، وكذا في كتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق، وكذا في مستدرك الوسائل للميرزا النوري، والنص الروائي يذكر الثقافة باعتبارها حق من حقوق الولد الصغير على أبيه ومربيه، وهو التالي:

(وأما حق الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه، والعفو عنه والستر عليه، والرفق به والمعونة [له، والستر] على جرائر حداثته فإنه سبب للتوبة، والمداراة له وترك مماحكته فإن ذلك أدنى لرشده)[27].

          والرواية لها أبعاد مهمة جديرة بالتوقف، ومنها:

1/ أن تثقيف الولد حق من حقوق الوالد، فمن واجب الوالد أن يعمل على تثقيف ولده كما ينفق عليه، فالنفقة من الجوانب المادية الأساسية التي يحتاجها الولد في صغره من أجل التغذية وصلاح البدن، والثقافة من الجوانب المعنوية التي يصلح بها العقل وتتهذب السلوك، وهذه لفتة مهمة تبيّن لنا اهتمام الإسلام بوعي الإنسان منذ صغره، ولأنه غير قادر على التمكّن من هذه الصفات لقلّة إدراكه وعجزه صغيراً، جعل لوليه هذه المهمة، التي إن عمل بها سيكون الولد متكاملاً في شخصيته، وهذه مقدمات الشخصية الراشدة، كما قال: (فإن ذلك أدنى لرشده).

2/ في المقطع الأول من حقوق الولد في الرواية المذكورة هي: (وأما حق الصغير فرحمته، وتثقيفه، وتعليمه)، وهذه الثلاثية هي أمور واردة على الطفل وهو في موقع المستقبل والمتلقّي لها، والحقوق التي تلتها تعبّر عن رد فعل الوالد على أفعال صادرة عن الطفل حيث عليه أن يعفوا عنه ويستر عليه ويرفق به، وما يهمنا هو المقطع الأول الذي يمكن أن يسهم في إعطاء دلالة إيجابية متناسقة مع المعطى اللغوي والارتكاز الذهني في بعده المشترك للثقافة.

          فالحقوق الثلاثة منها العامل النفسي المتمثل في (الرحمة) كأجواء نفسية إيجابية تهيئ الشخصية للاستقبال، والعامل المعرفي المتمثل في (التعليم) لسدّ مساحات الجهل في العقل واكتسابه النور لمعرفة الأشياء، والجانب الثالث، وهو الأوسط ترتيباً (التثقيف) وهو الترشيد لكي يضع العلم موضعه وهو بمثابة التوجيه الصحيح للمعارف.

3/ أن الثقافة جاءت متوسطة بين الرحمة وهي من العوامل النفسية، وبين العلم وهو من الفعل العقلي، بما يعطينا إشعاراً بأن الثقافة مرتبطة بالعقل وبالنفس معاً.

          ونعيد التذكير في نهاية هذا المطاف بالتعريف الذي ذكره السيد المدرسي للثقافة وهو الذي يعتمد القدر المشترك بين التعريفات:

الثقافة هي: (منظومة الرؤى والأفكار المؤّثرة في حياة الإنسان والتي تحدّد مسار سلوكه وطبيعة مواقفه)[28].

          لننتقل إلى الدلالات الإضافية للثقافة الرسالية.

 


لمتابعة البحث يرجى تنزيل الملف المرفق.. (نظراً لطول البحث).

{phocadownload view=file|id=115|text=الرسالية كنظرية في العلوم الاجتماعية، دلالات الثقافة الرسالية|target=s}

من مؤلفاتنا