التحولات السياسية.. بين سنن الانتصار ونفس الهزيمة

images44 التحولات السياسية

بين سنن الانتصار ونفس الهزيمة

السيد محمود الموسوي

إن ما يجري في تونس ومصر وبعض البلاد العربية والإسلامية من حراك جماهيري يطالب بالكرامة من خلال توفير مناخات الحرية وظروف العيش الكريم والعدالة والإنصاف، وما نلاحظه من تأثير لذلك الحراك الضاغط على سياسات مستبدة ظالمة عاثت في الأرض فساداً حتى أهلكت الزرع والنسل، كل ذلك يقودنا إلى الحديث عن العقليات التي تشكل الرؤى وتغذي المجتمع لتصيغه من خلال بث أفكارها فيه.

.

 

والسؤال كيف تنظر تلك العقليات إلى مجريات الأحداث وتحولات الواقع السياسي؟ وبأي منظار وآليات تعمل على تفسيره؟

من الواضح أن هناك عقليتان تقومان بقراءة للواقع:

الأولى: العقلية المتأثرة بالحدث والتحولات، فتصيغ فكرها وثقافتها بناء على المعطيات التي تلامسها، وتخضع للواقع وتحاول الملائمة بينه وبين ما تؤمن به من فكر وعقيدة.

الثانية: العقلية التي تقرأ الواقع من خلال السنن الإلهية، لتكتشف أسرار التغيير لتبني من خلاله التحرك، معززة كل ذلك بالثابت من رؤاها وعقيدتها، التي لا تقبل التغيير ولا التحويل، باعتبارها سنن (تاريخية) إلهية.

إن العقلية السُنَنية التي تكتشف السنن وتؤمن بثبوتها فتتبع الأسباب، هي ذات البصيرة النافذة، فلا تنظر للأحداث المؤثرة في الحراك الاجتماعي والسياسي إلا تطبيقات للسنن، فإن الظالم مآله إلى الهلاك وكلما أمعن الظالم في ظلمه فإن أجله يقترب، وإن الإرادة والتعاون يصنعان المعجزات في التغيير، فلا ينخدع ذو البصيرة بزخم الإعلام ولا بدعايات الأنظمة الجائرة، ولا يخاف من تهديداتهم، ولا يتنازل على طموح التغيير.

إن الله تعالى ذكر في كتابه في عشر آيات هذه الحقيقة: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وذكر عز وجل: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ).

فلذلك فإن صاحب البصيرة لا يستسلم للواقع في رؤاه ولا ينازل عن طموح التغيير، فهو يعمل وينادي على الدوام: : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). ليأخذ الناس بالأسباب التي توصلهم إلى حياة الكرامة، كما كان ذو القرنين، الذي قال عنه تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً).

المشكلة تكمن في تلك العقليات التي تتأثر بالواقع فيكون الواقع هو الذي يصيغ ثقافتها ورؤاها، فتراهم ينتشون وينتفضون وينادون بإمكان التغيير حينما يعيشون انتصارات الآخرين، وتلك الأحداث بلا شك تبعث برسائل للعقل لعله ينفض عنه غبار الهزيمة، كما حدث من انتصار المقاومة في لبنان على العدو الإسرائيلي، وكما حدث في تونس من هروب الدكتاتورية، وعواصف التغيير في مصر، إلا أن هذه العقلية التي تركّب قناعاتها على التحولات وتكون آليات تفكيرها هي انتصارات الآخرين، لا يمكن الوثوق بها في واقع الظلم وحياة الكبت، ذلك الوقت الذي يحتاج فيه الإنسان إلى الحركة من أجل تغيير واقعه أكثر من أي شيء آخر.

ألم تُغلب الروم؟

نعم لقد غُلبت الروم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) لقد هزمهم الفرس المجوس آنذاك، وقد أصاب المؤمنين غمّ وحزن، لأن الروم أقرب إلى المسلمين باعتبارهم أهل كتاب، ولكن الله تعالى أخبرهم بسننه وبوعده حيث قال: (وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

إن القرآن الكريم يعطينا شواهد وتحولات كانت في المجتمع الإسلامي لكي نستوعب كيفية حركة العقل، ونعي تماماً ما هي آليات صياغة الوعي وعلاقته بالواقع.

لابد أن يسأل أصحاب العقليات المتأثرة بالواقع أنفسهم: ألم يعِد الله تعالى المؤمنين بوراثة الأرض؟ ألم يعد الله بنصر من ينصره؟ ألم يعد الظالمين بالهلاك؟ إلى آخر الوعودات الإلهية العظيمة.. إذاً فلابد أن نتحرّر من عقلية الانهزام أمام الواقع.

فمع الأسف الشديد إننا رأينا وقرأنا ومنذ زمن بعيد وإلى وقتنا الراهن، كيف أن بعض المنظّرين والباحثين ينقلبون على أعقابهم في أوضاع يكون الناس أحوج إليهم فيه من غيرها، فيشيعون ثقافة التبرير والاستسلام باسم عدم القدرة وباسم السلام..

والحال أن من أراد الخروج أعد له عدته ليأخذ بأسباب التغيير، وأن السلام يحتاج إلى جهاد ليقام في المجتمع، أوليس أعظم حالة يعيشها الإنسان في سلام هي (الصلاة)؟ وقد طالبنا الله تعالى بأن نقيمها، أي أن نجعلها قائمة في المجتمع، وكيف إذا تم الاعتداء على السلم والسلام؟ ألا ينبغي أن نعمل لدفع ذلك الاعتداء؟

هنالك فرق كبير بين السلام والاستلام، والعقلاء يعرفون ذلك.

تكمن خطورة هذه العقلية في أنها لا تكتفي بتبرير تحركاتها، بل تسعى لإعادة قراءة التاريخ بنفس انهزامي، ذلك التاريخ المعصوم الذي تجلّت فيه بصيرة المعصوم المتطابقة مع الوحي المقدّس.

فيكون عند أولئك أن أهل البيت عليهم السلام ابتداء بالإمام علي (ع) وانتهاء بالإمام العسكري قد صالحوا ولم ينتهجوا نهج الجهاد ومقاومة الحكام الظلمة، ماعدا الإمام الحسين (ع) في آخر عمره اضطر لذلك ـ حسب ادعائهم ـ ولم يتفكروا في أن الإمام الحسين (ع) اضطر للمواجهة بالسيف، ولم يضطر لقيادة التغيير، وهو الذي قال (وأنا أحق من غيّر).

ونسأل  هل أن مقاومة الظالمين منحصرة في رفع السيف والشهادة الفورية؟

لم يقل أحد بذلك.. لكن القيمة الأساسية هي الوقوف ضد الظلم والظالمين وعدم مبايعتهم، والعمل من أجل التغيير والإصلاح، فإن أهل البيت (ع) كانت حياتهم كلها جهاد وعمل ضد الظالمين وإن اختلفت الوسائل بسبب اختلاف الظروف، فلا ينبغي حصر ذلك في الإمام الحسين (ع) بل وفي آخر حياته!!، وإن كان هو عليه السلام كان المصداق الأوضح والتجربة الأكثر مأساوية.

ألم يخض الإمام علي (ع) غمرات الحروب مع رسول الله (ص)؟ ألم يعمل على رد المعتدين في فترة تسلمه السلطة السياسية؟، وكذا الإمام الحسن (ع) الذي كانت حياته مليئة بالمواجهة مع الظلم، وإن اضطراره للصلح كان لمصلحة فضح الظلم وليس التستر عليه.

الغريب في كل من يريد أن يقعد عن العمل ويوادع السلطات ويعمل تحت قبة القصور، يلجئون إلى الاحتماء بعباءة الإمام الحسن (ع)، وكأن الإمام مستسلم للظالم أو للواقع، وكأن الإمام الحسن لم يفكر في فضح الظالم وفي تأسيس الثورة الحسينية كما قال الإمام الشيرازي رحمة الله عليه: بأن ثورة الإمام الحسن (ع) هي إعداد لثورة الإمام الحسين (ع)..

من من هؤلاء يستطيع أن يكون كالإمام الحسن (ع)؟ هذا الإمام المظلوم الشهيد، الذي صالح معاوية ليحفظ الولاية ويعيد صياغة الوعي ويفضح الظلم، لا لكي يثبت الظالم ويؤيد مساعيه، فهنالك فرق كبير بين الركون والمداهنة وبين الهدنة.

لا يمكن لأي قارئ أن يثبت مدحاً من أهل البيت إلى الظالمين، ولا تزلفاً ولا سعياً وطمعاً، ولا أي عمل يساهم في تثبيت حكمهم، فإن اضطر أحدهم لموقف في فترة من حياته فإنه يعمل على تغذية المجتمع بثقافة العدل والكرامة والتحذير من الظالم والظالمين، بل ويسعون للعمل السري في الخفاء، لهذا رأينا الإمام الكاظم (ع) يقبع في السجون ردحا طويلاً، حتى قتلوه مسموماً، ولهذا نرى التضييق على الإمام الرضا (ع) حتى أجبر على ولاية عهد ظاهرية لم يأخذ فيها قرارا، فيدس إليه السم، ولذلك العمل كان التضييق والإقامة الجبرية على الإمام الجواد والهادي والعسكري (ع)، فما منهم إلا مسموم أو مقتول. فهكذا تعرف الأمور بخواتيمها.

أما من يعمل تحت قباب القصور فإن الظالمين يتخمونهم ويحافظون على إطالة أعمارهم لأنهم ديكورات تحفظ حكمهم وسلطتهم، خشية من أن يأتي بديلاً عنهم فيرفس تلك التخمة ويحولها إلى عامة الناس، فتتحول من تخمة إلى نعمة.

فإن الظالم لا يتمنى طول العمر لمن يحارب الظلم، فخواتيم الأمور ونهاياتها براهين على الحقائق.

من الواضح أن عقلية التأثر بالتحولات السياسية والمأسورة بالواقع، تتبع منهجاً تجزيئياً في قراءة التاريخ، لأن القراءة الاستيعابية لحركة المعصوم بأكملها أو لحياة المعصومين كوحدة واحدة ومطابقتها مع القرآن الكريم لا تخدم هذا التوجه.

كل من أسره الواقع وشعر بصعوبة التغيير نادى بأن هذه مرحلة من مراحل الاضطرار، فيؤسس رؤاه تبعاً لذلك الشعور أو التشخيص، والحال أن زمن الاضطرار الذي واجه أهل البيت (ع) كانت فيه الإبادة للخلّص الذين لا يوجد بديلاً لهم، وكان الإسلام والولاية في خطر، أما الآن فإن فسح الاضطرار ضيقة جداً، ومبدأ المستحيل قد استحال، هذا ما تثبته التحولات من حولنا، فسقوط الطاغية صدام وهزيمة إسرائيل وهروب الدكتاتور التونسي، وعاصفة التغيير المصري، ومن قبلهم طوفان الثورة الإسلامية في إيران، كل تلك التحولات تثبت أن التغيير ممكن وأنه لا اضطرار في العمل تحت قباب القصور.

عندما يكون خيار المتصدي للشأن السياسي العمل مع الظالمين بحسب تشخيصه، يكون أهون من خيار المفكر والمثقف والعالم الذي يختار الخيار الأضعف، فيبدأ بالتأسيس الفكري له وبإعادة قراءة التاريخ وفق مساراته الجديدة، لأن ذلك يعد تزييفاً للوعي وظلم لأهل البيت (ع)، وظلم للعباد.

إن صاحب البصيرة والعارف بالسنن الإلهية يستبشر بالتحولات السياسية التي تجلّت فيها روح الكرامة لتؤسس لتغيير الظلم إلى العدل، ويسعى إلى التبليغ بهذه الحقيقة ليغذيها الشعوب قيادة منه للعقول، وصياغة للوعي، أما الذين يصيغ الواقع وعيهم، فإننا نأمل أن تكون هذه التحولات بمثابة ثورة وانتفاضة تزيح التوجسات والتراجعات، لتعيد العقل إلى رشده بإتباعه سنن الله تعالى التي لا تقبل التبديل أو التحويل.

 

 

من مؤلفاتنا