كشف السرّ.. أمّا إذا سميتها فاطمة!

5e31af51775a4كشف السّر

أمّا إذا سمّيتها فاطمة!

لقد كنت يوماً على مائدة نورانية لأحد أعلام الأمة ومُبصريها، ونحن نستظل بظلال أحد المشاهد المشرّفة لساداتنا الأطهار، فألقى في وعينا فكرة حصيفة مستلّة من فهم شمولي عميق لكلام أهل بيت النبوة (عليهم أفضل صلوات المصلين)، حيث وجّه نصحه نحونا قائلاً: أطلبوا من كل إمام تتشرّفون بزيارته، ما حُرم منه في الدنيا، فإن السماء ستدرّ بركاتها بهذه الشّفرة النّورية.

قالها، ومضى في ناحية أخرى من الهدى..

إذاً، فليقف الزائر إجلالاً عند غريب طوس (ع) ليسأل كفايةَ ما تفضيه الغربة في حياة الإنسان من فقدان الأنس، والحرمان من الولد، والإنقطاع عن مواطن الحرية. وليسأل عند عتبات الإمام الكاظم (ع) الفرج والإنعتاق من ظُلم السجون بكافة أنواعها، سجون السلطان أو سجون النفس أو سجون الأسقام، وهكذا اقتف الأثر عند أبواب سائر المعصومين.

أجل النّظر وارمِ بالفكر وأسبر عمق الأحداث، واكتشف الظلامات التي أوقعها الظالمون على أهل البيت (ع)، لتكون للإنسان في معتركه الصّعب فرجاً ومخرجاً.

وتلك البصيرة أوضحها الإمام الحسين (ع) في حقّ نفسه، من غير أن يحصر سرّها في زيارته، ودون أن يمنع مدياتها عن الترداد في حق ذريته، إذ قال: "أَنَا قَتِيلُ الْعَبْرَةِ، قُتِلْتُ مَكْرُوباً وَحَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا يَأْتِيَنِي مَكْرُوبٌ قَطُّ إِلَّا رَدَّهُ اللَّهُ وَأَقْلَبَهُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً".

إذاً، فالسرّ في الولوج إلى رحاب الرحمة الإلهية التي تجلّت في أهل البيت (ع)، هو أن نفتح سجلات التاريخ المظلم الظالم، ونحصي ما جرى عليهم من آلآم، لنعي خساسة أعدائهم، ودناءت مناوئيهم، ثم نجني الإستحقاقات الأممية التي فاضت بها السماء بشأنية أهل السماء على الموالين من أهل الأرض، وتلك شعبة من شعب قول النبي (ص): (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ).

ولأن عجائب كلام أهل النبوة لا تنقضي، وفوائده لا تنضب، ولأنهم أمراء البيان وسادات البلاغ، ولأن علامة الفقيه كل الفقيه في استنطاق معاريض كلماتهم، وإحكام متشابه ألفاظهم، والتفريع من أصولهم، حاولت فيما حاولت كما يعالج الطفل في بدء نُطقه، أن أشقّ أسفار علومهم اللّدنية، وأفكّ ما انعقد به لسان الحق في سيرتهم الوضيئة، بسؤال حييّ خجول، في شأن ماجرى على سيدة الأكوان وراعية الأئمة وحجّتهم، أم أبيها رسول الله (ص)، فاطمة الزهراء المحدّثة الشهيدة.

ولأن التاريخ لم يفصح عن جل الحقائق فضلاً عن كلها، ولأن مِداد المؤرّخين صدرت عن قصر السلطان المناوئ، ولأن سطورهم كانت قيئ الناصب والحاقد والحاسد، فكانت أسفار التاريخ أكثر شيء ظلماً وعدواناً وبخساً لحق أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومعادن الرحمة. فلن تزيد كتب التاريخ المأجور، الباحثَ إلا الخُسر ومزيداً من الجهل والتعمية.

فرجعت إلى ما ذكرته أول الكلام، واقتفيت أثر البصيرة في مطاوي البيان، وأشرفت على بصيص من الهداية في ما يمكن أن يكشفه التدبّر في حديث سادة الأنام، من أجل استحداث حقائق ظنت الأيدي الآثمة أنها أبلتها، وهل يُبلى معدن زوّد في حقيقته سائر المعادن بكنهها وحقائقها؟ كلا، وإلا فكيف تُعرف المعادن إن فقد ما يمدّها بقيمتها؟!

فعوداً على بدء، فنبسط البيان ونحكم دائرة الحكمة والعرفان، لتتجلّى أمامنا ولادة لأفكار حافظ عليها أهلها كأجنّة مستترة في رحم بيناتهم الشريفة.

لقد استبانت لنا من حديث الإمام الحسين (ع) السالف ذكره، حقيقة بإزائها بركات، فالحقيقة أنه سلام الله عليه (قُتل مكروباً)، وأما البركات التي أعدّها الله تعالى لزائريه هي (انكشاف كربهم) وعودتهم من زيارته مسرورين بما أصابهم من الله من فضل.

فمفاد ذلك ونتيجته: أن (الحقائق) الإمامية، تنبجس منها (بركات) للموالين من سنخ تلك الحقائق..

والدائرة لمّا تكتمل بعد، وبغية تكميلها لنتوسّل بحديثِ صادق الأئمة (ع)، في قوله عند زيارة الإمام الحسين (ع): "إِذَا أَرَدْتَ زِيَارَةَ الْحُسَيْنِ (ع) فَزُرْهُ وَأَنْتَ كَئِيبٌ حَزِينٌ مَكْرُوبٌ شَعِثاً مُغْبَرّاً جَائِعاً عَطْشَاناً، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ قُتِلَ حَزِيناً مَكْرُوباً شَعِثاً مُغْبَرّاً جَائِعاً عَطْشَاناً".

فندرك بالجري مجرى البصيرة المذكورة، حقيقة أخرى ومعادلة ولائية ثانية، وهي أنه (ع) ذكر (الحقائق) وأردفها (بوصايا) للموالين، فالحقائق أنبأت أن ما جرى على الإمام الحسين (ع) أنه قُتل بحال وواقع صعب وقد مر بأوقات عصيبة، يعتمر قلبه (الحزن) وقد أصابه مما جرى عليه (الكرب) وكان جسمه الطاهر (شعثاً) (مغبّراً)، ويزيد على هذا الحال أنه قضى متضوّراً (جوعاً) ومتلوٍّ (عطشاً). هذه الحقائق التي سردها الإمام في حديثه، بيّن لنا ما ينبغي أن يوازيها من سلوك عندما نقصد زيارته، وقد صاغها في وصايا منسجمة مع الحقائق، تحاكي ما جرى عليه وتطبع الواقع بصورته، وهي أن يزوره الزائر وهو (كئيباً، حزيناً، مكروباً، شعثاً مُغبرّاً، جائعاً، عطشاناً).

فتنبجس أمامنا المعادلة التالية: أن (الحقائق) الإمامية، ينبغي أن يكون بإزائها (وصايا) تربوية ينتهج مسارها الموالون.

وإذا ضممنا ما انبجس أولأً (من قاعدة) بما انبجس ثانياً (من قاعدة)، تتولّد عندنا معادلة مكتملة المعطيات والنتائج، محكمة البيان والقواعد، متّسقة مع الأصول والشرائع، وهي:

أن (الحقائق) الإمامية، تتطلّب سلوكاً بصورة (وصايا) للموالين، فتنفتح أمامه أبواب (البركات) الربّانية.

معادلة معرفية تدلُ عليها - مضافاً للتدبّر في مضان كلماتهم النورانية - الأصولُ الإعتقادية التي أيقنت العقول بفحواها، وهو أن هنالك علاقة تكامل بين التكوين والتشريع، وأن المعصومين هم محال رحمة الله، وأن "إِرَادَةُ الرَّبِّ فِي مَقَادِيرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِلَيْكُمْ‏ وَتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُم‏".

الآن وقد انقضى الإفصاح عن منعقد البيان، ووعينا الترابط بين (الحقائق) و(الوصايا) و(البركات)، لنرجع إلى بعض المبهمات من حقائق التاريخ، لنحاول أن نستكشفها بمنظار انعكاس (البركات) أو ظلال (الوصايا)، لتكتمل المعادلات، ونقطع المشكوك بالمتيقّن، ونفرّق بين الموهوم والمعلوم.

لنشرع في الدرب مع إمامنا الصادق جعفر بن محمد، (ع)، الذي يكتنز عقله العلم كل العلم، ويحوي قلبه الحقائق كل الحقائق، لا يغادر صدره صغيرة من التاريخ ولا كبيرة إلا أحصاها، فهذا الإمام المبين، محاصر ممنوع من التبيين، تزلقه الأبصار، وتتحسّسه الآذان من كل جهة.

يا تُرى.. أنّا له أن يُفصح عن حقائق التاريخ الكبير، وكيف له أن يَروي أكباد الموالين الحرّى، فأي حاذق تُكبّله كل تلك القيود التي تحيط به، ستمنعه عن كشف اللثام عن الحق الصراح، وستطوي بذلك سجلات التاريخ البعيد طي الإندثار، إلاّ أن ذلك لا ينطلي على مثل جعفر بن محمد، وهو الصادق ابن الصادقين وأبو الصادقين، الذين أمرنا الله تعالى أن نلتحف كساءهم حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). والصادقون لا يعجزهم البيان ولا يثنيهم عن توصيل الحق إلى من كان.. فالأهداف تبلغها الهمم بألف طريق وطريق، ولذا تراهم أوعزوا للعقول بمفاتيح البصيرة، في اقتفاء ما أشاروا إليه في أن لهم في لحن القول مخارج، ولهم في متشابه الإشارات محكمات، ولهم في أصول القواعد تفرّعات.

فأين يمكن من كلام الإمام الصادق (ع) أن نفرق بين الحق والباطل ونجزم بالعلم دون الوهم، ونقطع بالحق دون التحريف في حقيقة ما جرى على سيدتنا فاطمة الزهراء (ع)؟

لنروي هذه القصة، ولنستنهج الهدى:

دخل السّكوني على الإمام الصادق (ع) وهو مغموم مكروب، لأنه وُلدت له بنت خشي عدم القدرة على إعالتها، فخفّف الإمام عنه ماعتمر في قلبه من أسى، بأن ذكّره أن الرزق على الله قد كفله لخلقه، ولكن الإمام سأله فيما بعد عن اسم تلك المولودةحديثاً، فقال: أسميتها فاطمة.

فاطمة؟!.. هذا الإسم هو عنصر الحسن في حسابات السماء، ولذكره تضطرب الأفئدة حباً وألماً.. ولعل الإمام عندما سمع اسم فاطمة يطرق سمعه، أصابته حالة نقلته إلى ماضي الرسول وابنته وما جرى عليها، تقول الرواية: أخذ يتأوه، آه آه.. ثم وضع يده على جبهته، فأوصى السكوني بوصايا تناسب مَن يُرزق بولد أو بنت، ثم أردفها بوصية أخرى ذات أهمية وخصوصية، دون أن يساله السكوني ذلك، إنما هو استثمار الفسحات لتبيان الحقائق للمتدبّر البصير، لنستمع للإمام (ع) قائلاً:

"أَمَّا إِذَا سَمَّيْتَهَا فَاطِمَةَ، فَلَا تَسُبَّهَا، وَلَا تَلْعَنْهَا، وَلَا تَضْرِبْهَا".

ألا ترى معي أن هذه (وصايا) مرتبطة بخصوص اسم (فاطمة) عليها السلام؟

فعندما يرزقك الله بمولدة انثى وقد أسميتها بإسم فاطمة (ع) فإن عليك أن (لا تسبّها) و(لا تلعنها)، و(لا تضربها)، فهذه و(صايا)، تتوارى خلفها (حقائق) وتنبجس عنها (بركات)..

وعوداً على ما أسّسناه واقتفاء لما استنهجناه من أن (الحقائق) الإمامية، ترتبط بها (وصايا) من سنخها، وتتنزّل (بركات) من جنسها، فكل مادة تكشف عن الأخرى، نقف أمام (وصايا) ذكرها الإمام (ع)، وكأنه أراد أن يعلّمنا ما جهلناه، ويفهّمنا ما تحيرنا فيه..

أتكون الحقائق هي أنهم (لعنوها)؟! وما يعني ذلك من عقيدة الكفر.

أتكون الحقائق هي أنهم (سبّوها)؟! وما يعني ذلك من عُقدة الكفران.

أتكون الحقائق هي أنهم.. أنهم (ضروبها)؟! وما يعني ذلك من إنعقاد الكفور.

إلى هنا، تجمّدت الأنامل، وجفّ الحبر، وتكسّر القلم.

السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْمُضْطَهَدَةُ الْمَقْهُورَة.

السيد محمود الموسوي

30/1/2020

من مؤلفاتنا