في مسار النقد والتطوير .. عاشوراء كموسم معرفي وروحي واجتماعي

yahusain12في مسار النقد والتطوير

عاشوراء كموسم معرفي وروحي واجتماعي

          السيد محمود الموسوي

.

         

تمهيد

          بات من الضروري والملحّ، النظر الجاد لرسالة المآتم والحسينيات في الواقع الشيعي، والبحث عن كوامن الخلل ومواضع الفراغ والنقص، والسعي للمعالجة وسد الهوات الحاصلة نتيجة العمليات الإدارية البشرية.

فعندما نلوّح أو نصرّح بخلل حاصل هنا أونقص وفراغ هناك في موضوع المآتم والحسينيات، فإننا نوجه الحديث نحو البشر باعتبارهم الجهات الإدارية المتصدّية لإدارة هذه المؤسسات الدينية المتميزة، ولا يعني ذلك بأي حال نقداً لأصل المؤسسة، وإنما نقداً للتجربة الإدارية والممارسة البشرية المتصلة بهذه المؤسسة.

          ولذلك فإننا لابد أن نؤكد أولاً وقبل كل شيء بأن المآتم والحسينيات هي من أهم المؤسسات الدينية بعد المسجد في التكوين الشيعي (تكوين الفرد، الأمة، الهوية)، وهذه المؤسسة هي التي ساهمت وتساهم وسوف تساهم مستقبلاً، في  صياغة الهوية الشيعية، من الناحية الفكرية والعقيدية، والناحية الشعورية، إلا أن كل ذلك لا يعني أن نستسلم للواقع ولا نسلّم أنفسنا للإرتجال الإداري اللحظي، وعلينا دائماً أن نعمل من أجل تطوير مؤسساتنا ومشاريعنا، لتكون الأطر متسقة مع المحتويات، ولتكون الرسالة مواكبة للتحديات المعاصرة لكل زمان.

النهج القرآني في النقد والمعالجة الشعائرية

          لكي لا تنحو العملية النقدية منحى سلبياً وتؤثّر خلافاً لما يراد لها من التطوير والمواكبة المعاصرة والإصلاح نحو الأفضل، فإن من المهم أن ننهج طريق النقد البنّاء، وهو الأسلوب الذي اتبعه القرآن الكريم، على الخصوص في نقد الشعائر الدينية التي جاء الإسلام لترسيخها والتي طلب من المؤمنين العناية بها والمحافظة عليها، وجعلها شعاراً للمؤمنين.

          يمكننا أن نستجلي ملامح النقد القرآني من خلال تناول القرآن للصلاة، وهي الشعيرة التي تفرق بين المؤمن والكافر وهي العمود الذي يقوم عليه الدين، فبرغم أهمية الصلاة في التكوين الإيماني للإنسان، إلا أن القرآن وجّه النقد للمؤمنين في طريقة ممارساتهم لها، والنقد كما أسلفنا، ليس للشعيرة وإنما للذين يمارسونها.

          ما نلحظة في الآيات القرآنية أنها اعتبرت أن إقامة الصلاة من صفات المتقين، في قول الله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، وأن قسماً من المجرمين إنما كانت عاقبتهم جهنم؛ لأنهم لم يكونوا من المصلين، كما في قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)، فالصلاة صفة المتقين ومن دونها تكون عاقبة الإنسان جهنم، فالقرآن حدد أهمية الصلاة بهذين اللحاظين الهاميّن، أثر إقامتها وأثر تركها.

          إلا أن القرآن الكريم لم يعط المصلين الضوء الأخضر في سلوكياتهم وفي أدائهم وممارستهم لها، فقد تعرّض للمصلين بالنقد فقال: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)، فهؤلاء من المصلين إلا أنهم لا يعطون صلاتهم أهمية كبيرة، وقال عز وجل: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)، وهناك قسم من الناس لا يستوي ظاهرهم مع باطنهم، فليس كل من يؤدي الصلاة بشكليتها سيعتبر من المصلين، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ).

          فهناك عدة حالات نقدية قدّمها القرآن للمصلين:

1/ قد يكون المؤمن مؤمناً بأهمية الصلاة إلا أن سلوكه لا ينم عن ذلك، فيتراخى ويتساهل في أمرها.

2/ قد يمارس الصلاة من هو مرائي، فلا يريد من الصلاة حقيقتها، إنما يخدع الناس بممارستها ظاهراً.

3/ أن بعض المصلين قد لا يلتزم بشروط الصلاة ومستلزماتها، فيقوم لها كما يقوم السكران، سواء سكر الخمر أو سكر النوم.

          إن القرآن الكريم بهذا النقد لا يريد هدم واقع المصلين ولا يريد طمس معالم الصلاة؛ لأنه يذكرهم بأن التزامهم وإصلاحهم لهذا الواقع هو في صالح واقعهم وتقدّمه، حيث يقول تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ). وقال عز وجل مبيناً آثار الصلاة على واقع الإنسان: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ).

          وكل ذلك مع توجيه القرآن الكريم إلى أن يلتزم المصلي بالغايات والمحتوى لهذه الشعيرة، فلا يؤديها رياء وسمعة ونفاقاً ولا يكتفي بالشكليات والمظاهر، فيقول تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).

          هذه الملامح العامة للنقد القرآني ولمعالجة الشعائر الدينية، وكمثال تطبيقي آخر يمكن أن نلحظ نفس الملامح متوافرة في معالجته ونقده لممارسة شعيرة الحج، فيقول تعالى:

 (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ. أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

          وعلى هذا المنوال ينبغي أن يعالج موضوع مؤسسة الحسينيات والمآتم، وسائر الممارسات الشعائرية.

رسالة الحسينيات

          لابد أن ننطلق من تأسيس قيمي لبعد الغايات من العبادات والممارسات، ولا ينبغي أن يغيب عند المعالجة والمراجعة أن لكل عبادة وفعل ديني رسالة ومضون، تتمثل في الغايات التي ينبغي أن يحققها، وسواء عرفت الغايات بتفاصيلها أو عرفت بعمومها، فإنها من الثوابت التي لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان، وأن غيابها، هو غياب للهدف وضياع للإتجاه والمسار.

          ويعتمد هذا التأسيس على العديد من النصوص الدينية، ولكننا نكتفي بقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فكل عبادة وفعل يخرج من المؤمن، ينبغي أن يكون في مرضاة الله تعالى، وهي الغاية الكبرى التي تتوسطها مجموعة غايات تربوية، كتزكية النفس وتقويمها.

          ورسالة الحسينيات هي كما اتخذها المؤمنون، تتجلّى في عموم عنوان (إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، وهو كل عمل يرتبط بهذا العنوان من أي جهة من جهاته، سواء كان في مناسبات أفراحهم (ع)، أو في مناسبات أحزانهم، أو أي مناسبة وذكرى أخرى، تكون نافذة لتحقيق أمر الإحياء لأمر أهل البيت (ع).

هل واقع الحسينيات يفي برسالتها؟

          من منطلق حفظ الرسالة نحتاج إلى قراءة الواقع المحيط والأثر الحاصل، من خلال الملاحظة الميدانية، ومقارنته برسالة الحسينيات التي ينبغي التطلع نحوها دائماً لمحاولة الوصول إلى الغايات التي ينبغي أن تحققها في واقع الأمة.

          إن إحياء امر أهل البيت (عليهم السلام) كعنوان، هو من أعظم، بل هو أعظم عنوان في العقيدة الإسلامية، باعتباره مرتبط بالولاية لهم (عليهم السلام)، وكما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمس على الصلاة والزكاة والصوم‏  والحج والولاية ولم يناد بشي‏ء كما نودي‏ بالولاية). وبذلك نعي أن تحقق رسالة الحسينيات والمآتم إنما تتم بظهور الأثر الذي تبتغيه ولاية أهل البيت (ع)، من صياغة الشخصية المؤمنة الرسالية، وصياغة واقع الأمة وفقاً لمتطلبات الدين وغاياته.

          من حيث الكم، فإن واقع الحسينيات في العديد من البلدان حقق تقدماً ملموساً، حيث اهتم الموالون في تأسيس الحسينيات في أماكن تواجدهم وعلى الخصوص في الأماكن التي تكون فيها كثافة شيعية، كإيران والعراق والبحرين والمنطقة الشرقية من القطيف والإحساء، وكذا الكويت ولبنان وباكستان وبعض مناطق الهند وأذربيجان وغيرها.

          وإذا أخذنا البحرين ذلك البلد الصغير جداً مثالاً، فإن بعض المصادر تقول: أن "إدارة الأوقاف الجعفرية قالت في إحصائية لها مطلع 2009 بأن هناك ما يقرب من 1100 مأتم مسجل رسمياً في البحرين. فيما يقول آخرون بأن عدد المآتم الكلّي بما فيها غير المسجّلة قد يصل الى خمسة آلاف مأتم للنساء والرجال. وحسب عبدالله سيف في كتابه (المآتم في البحرين) فإنه يوجد ما يزيد على ثلاثة آلاف و500 مأتم (حسينية) للرجال فقط (كان ذلك عام 1994) هذا عدا مجالس ومآتم النساء"[1]. مع العلم أن المجالس البيتية التي يحيى فيها أمر أهل البيت (ع) هي أضعاف تلك الأعداد.

          ذلك الزخم الكمي الهائل الذي حققه المؤمنون في تأسيس الحسينيات والمآتم الحاضنة للثقافة الولائية الرسالية، لا يمكن أن ندّعي أنها حققت ولو عشرٍ من رسالتها تجاه صياغة شخصية الفرد وصياغة الأمة، ومواجهة التحديات المعاصرة، لأن هنالك وثوقية عميقة من قِبل أهل البيت (ع) بما يمكن أن تؤديه رسالتهم وأحاديثهم من أثر في حياة الإنسان الموالي أوالآخر المختلف، فهذا الإمام الرضا (عليه السلام) يقول في سياق بيانه لحكمة إحياء أمر أهل البيت (ع): (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا).

          وهذا يعني أن إحياء أمر أهل البيت (ع) له الأثر البالغ على الأمة، بينما إذا قسنا عدد الحسينيات والمآتم بالأثر الحاصل منها في الواقع، لا نجد ذلك متناسباً، ولا يفي بالحاجة والغرض.

أبعاد الإحياء ومواطن الخلل

          يمكننا التعرّف على واقع الحسينيات من جهة نقدية، من خلال المضي في بيان أبعاد إحياء أمر أهل البيت (ع) وهي الرسالة التي ينبغي أن تتصدى لها الحسينيات والمآتم، فنكتشف مواطن الخلل، ونعرف خطوات الإصلاح والتطوير، والإصلاح والتطوير هو الغاية من الدراسة النقدية، للشعائر كما أسلفنا وفقاً لهدي القرآن الكريم.

          هنالك ثلاثة أبعاد أساسية لرسالة الحسينيات والمآتم والتي تحقّق عنوان إحياء أمر أهل البيت (ع) بصورته المتكاملة، وهذه الأبعاد الثلاثة ينبغي أن تتخذها الحسينيات بكليتها دون تجزيئ، نعم قد يكون التجزيئ من جهة الأفراد كاتجاه تخصّصي، كل يختص بجانب منها لكي يبدع فيه ويعطي فيه بجودة عالية، إلا أن الإدارة العامة للحسينيات ينبغي أن تلتفت إلى الأبعاد الثلاثة، وهي:

1/ الإحياء الشعائري.

          الإحياء الشعائري وهو المرتبط بالمواساة والشعور، والإعلام، وإظهار التعاطف والإندماج مع حياة أهل البيت (ع) في كافة جوانبها، حزناً لحزنهم وفرحاً لفرحهم، وإظهاراً لمظلوميتهم، وإعلاناً لتوليهم، وتبرّياً من أعدائهم، وكأنهم يعيشون بيننا، وفي هذا السياق جاءت الكثير من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع)، منها على سبيل المثال: ما قاله الإمام الصادق (ع) للرجل البصري: قال: رحم الله دمعتك- أما إنك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون‏ لفرحنا و يحزنون لحزننا و يخافون لخوفنا و يأمنون إذا أمنا..).

          وقول الإمام علي (ع): (إن الله تعالى أطلع على الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون‏ لفرحنا ويحزنون لحزننا).. وعن الإمام الرضا (عليه السلام): (يابن شبيب إن بكيت على الحسين (ع) حتى تصير دموعك على خديك.. غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً).

          للجانب الشعائري غايتان أساسيتان، واحدة منها تتصل بنفس الإنسان وإصلاح نفسه من خلال إحياء الشعائر حيث تنصهر نفسه مع مصائب أهل البيت (ع) لتحقيق الترابط الوثيق بينه وبينهم (ع)، والتعاطف هذا، هو بالأصل نتيجة للترابط النفسي مع أهل البيت (ع)، ولكنه في ذات الوقت يدعم ذلك الترابط ويوثقه بل ويخلقه في قلب من لا يعرف أهل البيت (ع). أما البعد الآخر للإحياء الشعائري فهو مرتبط بالناحية الإعلامية، حيث أن المطلوب هو إظهار ذلك الولاء كشعيرة ظاهرة بينة للناس، وهذا بمثابة إعلان ولاء وترابط عقدي فكري مع أهل البيت (ع).

          فإننا أمام هذه الأبعاد للإحياء الشعائري، نجد الواقع قد حقق جزءاً من الظهور الإعلامي سواء في المجتمعات ذات الكثافة الشيعية من خلال مراسم الإحياء العاشورائي على سبيل المثال وخروج المسيرات وغير ذلك، أو في القنوات الفضائية الشيعية التي تنقل المجالس والإحياءات والزيارات المليونية لقبر الإمام الحسين (ع)، وهو بعد بحاجة للمزيد كي يصل صوت أهل البيت (ع) والإمام الحسين (ع) إلى كل أرجاء المعمورة بصور متعددة المظاهر.

          إلا أن الجانب النفسي والأثر الإيماني على المحيي للشعائر بحاجة إلى عناية عامة، فنوع المشكلات التي تواجه موسم عاشوراء على سبيل المثال، مثل العقد النفسية لدى إدارات الحسينيات، أو المواجهات وخلق الصراعات الداخلية مع بدء الموسم، وعدم إدارة الإختلاف الفكري والفقهي إدارة واعية، كل هذا يكشف عن عصبيات مناقضة لمقاصد الدين ومرام الإحياء، وهو بحاجة إلى توجيه وتثقيف من قبل العلماء، وبحاجة إلى ضبط وحزم إداري يمنع المشاحنات وأسبابها.

          ومن المؤشرات التي تدل على تراجع تأثير هذا الجانب من الإحياء، أننا لا نرى السلوك الفردي والإيماني الذي يبشر به أهل البيت (ع) حاضراً في حياة الإنسان بشكله المطلوب، فتعاليم اهل البيت (ع) بحاجة إلى أن تكون هي محور حياة الإنسان. ولعل المعالجة لهذا الأمر، هي أنه لا ينبغي أن تخلوا الإحياءات الشعائرية من التوجيه ولا تنعزل عن الأبعاد الأخرى للإحياء، وهي التي سوف نذكرها بعد هذا البعد؛ لتتكامل الأدوار، حيث أن الشعائر تخلق الحماس النفسي وتنمي روح الإنتماء، والإحياء المعرفي يقوم بالإستفادة من هذه الروح وذلك الجو لتبليغ تعاليم أهل البيت (ع).

2/ الإحياء المعرفي.

          الإحياء المعرفي هو المتصل بإبلاغ تعاليم أهل البيت (ع) وبيان علومهم، من أجل التأثير في شخصية الفرد وفي مسار الأمة، بل ولكي يواجه بها التحديات المعرفية المعاصرة، وهذا البعد المهم، ذكره الإمام الرضا (عليه السلام)، كما ورد عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا. فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم‏ علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا.

          معارف أهل البيت (ع) لا تختص بجانب دون آخر، فإنهم المعبرون عن حقيقة الإسلام الذي جاء بمختلف النظريات التي تصيغ واقع الفرد والمجتمع وتصنع الحضارة، سواء في الجوانب التربوية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية والقانونية أوغيرها من المعارف التي تحتاجها أي أمة لتكوّن حضارة متكاملة.

          وإذا نظرنا للواقع المعرفي للحسينيات والمآتم نراه متأخراً جداً عن الطموح التي يرسمها أهل البيت (ع) لمعارفهم التي يتحدّون بها كل صاحب نظرية، فبات الإستباق في اختيار الخطيب الذي يرتقي منبر الحسينية والمأتم، بالأقدر على الإبكاء وجودة الصوت، وبرغم أن ذلك مطلوب في جهة الإحياء الشعائري، إلا أنه لا ينبغي أن يكون على حساب جانب الإحياء المعرفي.

          ولعله من المناسب في هذا المقام التأكيد على أن الخطيب ينبغي أن يكون عارفاً وباحثاً في علوم أهل البيت (ع) لكي يوصل الرسالة ويحقق الغاية، كما أن الإدارات عليها مسؤولية انتخاب الأكفأ والأقدر لتحقيق هذا الجانب، على الخصوص مع وجود التنظيم الإداري بتصنيف المناسبة وتوزيع أدوارها، فكان الرادود المختص بالنعي جزءاً مهماً، ولذلك فإن انتخاب الخطيب العارف هي المهمة المكملة لذلك. وحسناً تفعل بعض الإدارات من تخصيص خطيب متخصص في النعي والإبكاء، وخطيب بعده متخصص في البحث ومعارف أهل البيت (ع)، أو بأن يكون الخطيب جامعاً للأمرين، أو ناقلاً جيداً للمعارف.

3/ الإحياء من خلال بناء الروح الجمعية

          لقد أكد في المنطق أن (للمجتمع) العام سلطته على فكر الإنسان، وأن (للتجمع) سلطة فكرية أيضاً، وأن (للجماعة) سلطة مشابهة أو أقوى من غيرها، ومن أجل توجيه هذه السلطة في قوة المجتمع الإسلامي والجماعة الرسالية التي تنتهج نهج أهل البيت (ع)، دعا أهل البيت (ع) شيعتهم لعقد التجمعات والإهتمام بالروح الجمعية من أجل خلق جو الإخاء والتوحّد والتكتّل والتعاون، واعتبروا ذلك من إحياء أمر أهل البيت (ع) كما في قولهم (ع): (فإن لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا)، لما تمثل تلك القوة الاجتماعية من قوّة لأمر أهل البيت (ع) باعتبارهم حملة ذلك النهج.

          قال الباقر (عليه السلام) لرجل: أتخلون، وتتحدثون، وتقولون ما شئتم؟ قيل: إي والله، قال: أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن.

          وعن خيثمة قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) أودعه فقال: يا خيثمة أبلغ من ترى من موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيهم جنازة ميتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم؛ فإن لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا.

          ولو تأملنا هذا الجانب الذي يحققه المأتم والحسينية باجتماع المؤمنين فيه وتعاونهم، وكذا في سائر التجمعات المصاحبة لكافة الفعاليات الإحيائية، سنرى أن روح التفرّق والتمزّق والنزاعات تسود المجتمعات وتسود حالة الإحياء، فينبغي أن تذوب الفوارق ويسود احترام كل طرف للآخر في ما يرتأيه، وعلى الخصوص اختلاف الآراء المبنية على رؤية شرعية، فلا يحق لأحد أن يعترض أو يجابه الآخرين ويحدّ من حريتهم الشعائرية، كما أن ردود الأفعال لا ينبغي أن تكون قاسية بحيث تتسع الهوّة ويتفرق الجمع، وتذهب ريح المجتمع وروحه.

          الروح الجمعية ينبغي أن ترتبط برباط حب الإمام الحسين (ع) وأهل البيت (ع) عموماً، وإن كان هنالك من اختلاف فالحوارات العلمية الهادئة ومبدأ الكلمة هو الحاكم، وليس منطق الشتم والتسفيه والتخوين، والشباب والتفسيق والإستفزاز، والروح الحسينية الجمعية التي تكونها الحسينيات يمكنها أن تواجه محاولات التمزيق ومحاولات التوهين ومحاولات التسلط من قبل القوى غير الإيمانية.

عاشوراء كموسم معرفي وروحي واجتماعي

          من خلال هذا الحديث نتطلع إلى أن يكون الموسوم العاشورائي، موسماً لإنتاج المعرفة في كافة جوانبها، السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية، حيث تنطلق منه نظريات في شتى المجالات، ومعالجات لمختلف التحديات المعاصرة، كما ينبغي أن يكون موسماً لخلق روح الحماس والإندماج النفسي، والمواساة لأهل البيت (ع) في فاجعة الطف الأليمة، وموسماً لبناء التلاحم الاجتماعي والتعاون في الخيرات، لتكوين هوية ولائية رسالية تتحدىّ كل الصعاب المعاصرة.

          وختاماً نذكّر أنفسنا بهذا الحديث المعصومي الذي يشير إلى الجوانب الإحيائية مجتمعة فعن أبي عبيد، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول لأصحابه وأنا حاضر: اتقوا الله، وكونوا إخوة بررة متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا وأحيوا أمرنا.



[1] / مرصد البحرين لحقوق الإنسان. http://www.bahrainmonitor.com/motabaa/t-024-06.html

من مؤلفاتنا